الوَصِيّة شعر : عبد العزيز محيي الدّين خوجة

ولدي .. يا ولدي
ليس في وجهتِنا غيرُ  المدينة
درّةٌ يحرسُها نورُ النبيِّ الأمجدِ
بابُها يرعاهُ مليونُ ملاكْ
اغسِلِ الهمَّ هناكْ
دربُها أجنحةٌ نحو السّماءْ
فُلُّها، ريحانُها، نعناعُها، فيه الشّفاءْ
قفْ على أبوابِه
طاهرَ النّفسِ، خفيضًا في حياءْ
إنّه هذا النّبِي
ربُّنا أهداهُ مفتاحَ المدَدْ
آهِ .. ما أطيبَه هذا البلدْ
والحجرْ
فيه روحٌ تتّقِدْ
فيه قلبٌ كالزّهَرْ
*     *     *
سيّدي ذاك النّبي
يا ولدي
كلِّم بالحب أُحُدْ
إنّه ذاك الصّحابيُّ أُحُدْ
ثم سلِّمْ واتّئِدْ
وعلى حمزةَ، رمحِ الله..
سمّاهُ الأسدْ
ثمَّ واقرأْ «قل هو اللهُ أحَدْ»
واتْلُ في حضرتِه أمَّ السُّوَرْ
*     *     *
سيّدي ذاك النّبي
خاطَبَه جذعُ الشّجَرْ
ناح من فرطِ الجوى ثمَّ انفطَرْ
إنّما أحنتْ عليه كفُّهُ حتَّى اصطَبرْ
والنّبي، يا ولدي
في ظلمةِ الدّيجورِ مشكاةُ البشرْ
ظلَّتِ الأرضُ على أبنائِها صحراءَ
حتّى اندلعتْ مِن راحِه رؤيا المطرْ
وعيونُ النّاسِ ظلتْ أبدًا عمياءَ تسعى
قبل أنْ يَحيي بها سرُّ البصرْ
كُوِّنتْ من أجلِه الدّنيا
فكانتْ كِلْمةً يَكلأُها روحُ القدرْ
كلُّ ما قدَّرَهُ اللهُ قدَرْ
فالسّماءُ انبلجتْ وارتفعتْ
واستوتِ الأفلاكُ
وانشقَّ القمرْ
والبحارُ انفجرتْ
والسُّحْبُ غيثًا سُخِّرتْ
ربَتِ الأرضُ كحضنِ الأمِّ وانداحَ الزَّهَرْ
كان أمرُ اللهِ مِن قبْلُ ومِن بعدُ كلمحٍ بالبصرْ
هل ترى، يا ولدي،
سبحانَه مِن لفظِه أبدعَ هاتيك الصّوَرْ
فهبِ القلبَ سليمًا ليدِ الرّحمنِ تَبرأْ مِن سَقَرْ
يومَ لا تنفعُ إلّا رحمةُ اللهِ
وفضلٌ للحبيبِ المُعتبَرْ
*     *     *
ولدي .. لمْ يبقَ في نهرِكَ شيْء
فاستعِن باللهِ واطْوِ الدّربَ طَيْ
ليس في الأبحُرِ ما يَشفي الظّمَا
إنّما العاشقُ لا يَشفيه رَيْ
واتّجِه نحو مَعينِ اللهِ تُسقى
يمِّمِ النّفسَ إلى فيضِ النّبِي
ثُمَّ عرِّجْ وتمهّلْ عندَ بدرٍ
حيِّ مجدًا لم يزَلْ يَمْثُلُ حيْ
ثم قف يا ولدي حيث ثوى أهْـــــ
ــــــــلُ جهادٍ ظلَّلوا القفْرَ بفَيْ
*     *     *
كصبيٍّ هالَه أمرٌ فناحْ
جئتَ يا قرَّةَ عيني، مثلَما الحصنُ المُباحْ
لم يزَلْ قلبُكَ يَدمى، مِن تباريحِ الجراحْ
لم يزَلْ ليلُكَ يَدجى..كيف ضيّعتَ الصّباحْ
لمْ تزَلْ راياتُكَ العذراءُ نُهْبى للرّياحْ
لم تَزَل طيرُك لا تقوى على خبْطِ الجَناحْ
سِر كما شاء الهدى، في حبِّ طهَ، للفلاحْ
فإذا طافتْ بعينيكَ ثنِيّاتُ الوداعْ
فاخلعِ النّعلَ ..
هنا الأرضُ تزيَّت بتباشيرِ خطاهْ
شاهقُ الحسنِ ظِلالًا أو شُعاعْ
طلعَ البدرُ عليها من مَداراتِ رُؤاهْ
شعَّ ذاك الرّملُ من طيفِ سناهْ
وسَرَت جذْلى بمجدِ الخطْوِ أنفاسُ البِقاعْ
مرحبًا يا سيّدي، يا خيرَ داعْ
واعتمِرْ في مسجدِ التّقوى اقتداءْ
أنتَ في حضنِ بواكيرِ الضّياءْ
سكنَةُ الهِجرةِ أُولى هدأةٍ بعدَ العناءْ
كلُّ من حطَّ جناحًا فيه يرقى لسماءْ
فادخلِ الجنّةً طيرًا من فراديسِ قُباءْ
حيث أحمدْ
ما لنا في الكربِ بعدَ اللهِ إلَّا عونُ أحمدْ
فتعلَّمْ كيف تمشي بخشوعٍ
في مدى أقدسِ معبدْ
*     *     *
لو ترى يا ولدي الأقمارَ جذْلى
فوق هاماتِ النّخيلْ
أو تراها في سماواتِ الأماسي
ترسُمُ الحلْمَ الجميلْ
لو تراها القبَّةَ الخضراءَ تجتازُ الطِّباقْ
كلُّ ما في الكونِ يبدو في اشتياقٍ وعناقْ
وإذا جئتَ الحِمى،
قفْ وانتظرْ إذنَ المثولْ
وتأدّبْ، ولدي، في حضرةِ الهادي الرّسولْ
فهنا بيتُ عليٍّ .. وهنا نورُ البَتولْ
وهنا، يا ولدي، البابُ لكي تلقى القَبولْ
*     *     *
من هُنا فاح عبيرُ الحَسَنيْنْ
وهما للمصطفى قرَّةُ عَيْنْ
وهنا نبْعُ الهدى للثَّقَلينْ
وهنا شعَّ سناءُ الصَّاحِبينْ
ثمَّ واسجدْ، يا حبيبي سجدتيْنْ
فترى الأفلاكَ تجري في اليدَيْنْ
والمُنى مبسوطةٌ في الرّاحتيْنْ
هذه آياتُه صِنوُ اليقينْ
لو تمَسُّ الصّخرَ تهمي ألفُ عَيْنْ
شهِدَ الله بها في العالمينْ
فاخفضِ النّفسَ خضوعًا للأمينْ
*     *     *
ثمَّ حلِّقْ في جِنانِ الخُلدِ روحًا مُستهامَهْ
إنَّ روضًا فيه طهَ جنّةٌ فاضتْ سلامَهْ
فاسرَحي يا نفسُ فيها نجمَ تيهٍ أو يمامَهْ
واهدُلي أنّاتِ عِشقٍ في اختلاجاتِ الحمامَهْ
واستفيقي يا طيوفًا هجرتْ ليلَ المنامَهْ
ظلِّلي ذكراهُ بي، زُلفى، كأنفاسِ الغمامَهْ
واحجُبي عن فتنةِ الدّنيا وسوءاتِ القيامَهْ
ثمَّ زُرْ مثوى النّجومِ النيّراتْ
واسدُلِ الطّرفَ حياءً للبدورِ الطّاهراتْ
في بقيعِ الغَرقَدِ
نورُهمْ في المرقَدِ
واقتبسْ مِن برقِهِمْ
مُزْنَ الخلودِ الأحمَدي
ثمَّ ودّعْ كحبيبٍ جُنَّ حُبًّا بحبيبْ
طالبًا، يا ولدي فرجَ اللهِ القريبْ
واحمِلِ الزّنبيلَ في العينِ
إذا عدتَ دعاءً وامتنانْ
بعضَ ذِكرى مِن حبيبٍ فَوحَ وردٍ
بعضَ فلٍّ من جِنانْ
ولدي..
عنبرُهُ، روتانُه
إبريقُ نعناعٍ على وادي العَقيقْ
نظرةٌ سادِرةٌ أو نظرَتينْ
آهةٌ حاسِرةٌ أو آهتَينْ
ولدي..
حفنةُ ماءٍ غُرِفَتْ مِن بئرِه الفيحاءِ
تُنجي من حريقْ
حبقُ السّهلِ ترِقُّ الرّيحُ لو مرّتْ عليهِ
وشذى الحِنّاءِ بوحٌ للطّريقْ
ثمَّ هِمْ في جنّتَيْ طيبةَ روحًا ثمِلًا ليس يُفيقْ
ثمَّ عدْ يا ولدي طاهرَ القلبِ ومَرضِيًّا مُعافى
مِن خطايا بحرِك الدّاجي الغريقْ
وصِلِ الخطوَ إلى البيتِ العتيقْ
موطِنِ الكِلْمَةِ، فاقرأْ
حيثُ نورُ اللهِ مِن بطحائِها الشمّاءِ لأْلَأْ
ثمَّ وابدَأْ ..
بطوافِ البيتِ شوقًا وتفيَّأْ
بظلالِ الله، رحْماتِ الحرَمْ
ودَعِ الحبَّ سلامًا خافقًا ما بين جنبيكَ رفيقْ
ثمَّ وابدَأْ ..
بالذي يبزُغُ من روحكَ بالفطرةِ واقرّأْ
قلْ هو اللهُ أحَدْ
عانقِ الأستارَ وجْدَا
قبِّلِ الرُّكنيْنِ
والزمْ سِدرَة الثّوبِ
وذُبْ في المُلتزَمْ ..
*     *     *
وانْوِ ما شئتَ، متى شئتَ، يُلبّى
باسمِه تخترقُ البحرينِ قُرْبَا
وارْمِ عن جنبيكَ أثقالًا وكَرْبا
واغتبطْ في الفيضِ مِن نور سلامٍ ركعتينْ
في مقامٍ كاد يسمو في رفيفِ الجنّتينْ
حيثُ صوتُ الله يعلو في دعاءِ الثّقلينْ
حيث طهَ أوصلَ الأرضَ بنورِ اللهِ حُبَّا
خطوُهُ هيَّأَ للخَلقَينِ في الأفلاكِ درْبَا
ثمَّ غُبْ من زمزمِ الكوثرِ غَبَّا
ثمَّ طرْ بين رياضِ المَروتينْ
وامسحِ الأثقالِ بينَ العُدوتينْ
هذه مكّةُ لو شئتَ تلمَّسْ نورَه في غارِها
تُبصرِ الحقَّ بهيَّ الطّلعِ في أحجارِها
صفوةُ اللهِ، اكتمالُ الخَلقِ مِن أسرارِها
غيرُ ذي زرْعٍ، وكلُّ الأرضِ من أزهارِها
بَذرَتْ أكبادَها في اللهِ من أثمارِها
للزّمانِ المجدِ، طهَ الحَبْرُ في أسفارِها
للمكانِ العزِّ، طهَ في رؤى أَبصارِها
هذه أمُّ القُرى، عانقْ ذُرى آثارِها
كلُّ قلبٍ فاض خيرًا مِن نَدى أمطارِها
ثمَّ واسبحْ في المُعَلّا في شَذى أعطارِها
فهنا مثوى «خديجه» في سنا أنوارِها
وهْيَ أنداءُ المعالي، في مدى أخبارِها
أحمدٌ بشّرَها مِن ربّها عن دارِها
جنّةٌ من لؤلؤٍ تعلو على أنهارِها
هي من كلِّ البُدورِ الغُرِّ مِن أقمارِها
هي مِن كلِّ بذورِ الخيرِ مِن أشجارِها
دثّرَتْ روْعَ نبيِّ اللهِ في أستارِها
فمضى في الأرض نورًا شعَّ من أمصارِها
*     *     *
أمَّ زهراءَ نساءِ الطُّهرِ، أُولى سيّداتِ الجنّةِ
بايعتْ موقنةً وحيًا على هديِ صراطِ الِملَّةِ
صابرتْ واصطبرتْ حتَّى تجلّتْ في رفيفِ الكِلْمَةِ
وحَنَتْ حبًّا عليه، فسمتْ نحو فضاءِ السُّدَّةِ
*     *     *
واعتصمْ بالعُروةِ الوُثقى سلامًا مِن ذُنوبِ
ذلكَ النّورُ الّذي ينجيكَ مِن عُمْيِ القلوبِ
صلِّ يا ربِّ صلاةً أبَدًا تبقى على طهَ الحبيبِ.