(فرانكشتاين عراقي) وشكل القصة القادمة مجدي دعيبس

في المجموعة القصصية (طقوس التّذّكر المحرّم/ ذاكرة المكان.. قصص وحكايا) للدكتور أسامة المجالي، يظهر النفس القومي والهم العربي في غير قصة، فالقاص هنا يعبّر من خلال المواضيع التي يختارها عن مشاعر مختلطة من الإحباط والغضب والاستنكار بأدواته الناضجة ولغته الحيّة ورؤيته الخاصة لطبيعة الصراع في المنطقة في الماضي والحاضر والمستقبل، غير أنّي في هذه السطور أودّ الإشارة إلى موضوع آخر بعيد عن المحتوى والمضمون والثيمة وهواجس الكاتب، وهو شكل العمل الذي يقدّم هذا المحتوى.
في قصة (فرانكشتاين عراقي) وهي القصة الأخيرة في المجموعة، يظهر السرد من الوهلة الأولى على أنّه تقرير صحفي لأحد كتّاب الأعمدة يحلل فيه ما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي وسقوط بغداد، ويصف بدقة الوضع الداخلي العراقي الذي تطور بسرعة غريبة إلى حرب تفجيرات على أساس طائفي، ولكن عند البحث والتدقيق في النص تظهر عناصر القصة التقليديّة كاملة من مكان (المقهى المطل على ساحة الفردوس في بغداد)، وزمان (2003-2004)، وشخوص (رفيقان)، وحدث (الحرب الأهلية في العراق)، وعقدة (دوامة الدم العراقي المسفوح)، وحل (متى ينتهي هذا الوضع؟). ونلاحظ أيضًا في هذه القصة غياب أسماء الشخصيّات وأي وصف داخلي أو خارجي لها، فلم يظهر من الرفيقين سوى ألف التثنية وهذا ما أجده من ملامح القصة الحداثيّة التي تُعنى بالحدث أكثر من شخوصه، كما أنّ عنوان القصّة يكمّل العبارة السرديّة ولا يلخّصها كما نرى في نماذج كثيرة في فن القص؛ فهو يحيل إلى رواية (فرانكشتاين في بغداد) للروائي العراقي أحمد السعداوي، والمقصود من هذه الإحالة الترميز والإشارة إلى الوحش الذي استيقظ من سباته العميق.
القصة العربية تتطور من حيث الشكل الذي تقدّم فيها نفسها للقارئ، وهي في محاولات بارزة تبتعد كل البعد عن شكل القصة التقليديّة، وما زال القاص يبحث عن مساحات ورؤى وفضاءات غير مطروقة ليحفر فيها خانة جديدة من خانات القص التي ما زالت في مرحلة المخاض للمرحلة المقبلة، وعنوانها غياب الشكل والعناصر المعروفة وتداخل الأجناس الأدبية، وربما الخروج بجنس هجين يعتمد على التّلقّي البصري والفكرة المركّبة والصورة البانوراميّة. ربّما يؤدي التطور الطبيعي للأدب إلى تجسير المسافات بين الأجناس المختلفة حتى تختفي الحدود بينها وتصبح نصوصًا أدبيّة، وليس رواية وشعرًا وقصة ومسرحًا.
قبل ثلاثة آلاف عام كان المسرح والفلسفة اليونانيّة التي تراجعت مع ظهور المسيحية والإسلام، ثم جاء الشعر بطفولته وفرديته ونزواته، ثم جاءت الرواية لتعبّر عن المجموع بصوت الفرد؛ هذه الحركة التاريخيّة التي تقود إلى التغير والتّبدّل والاختلاف كانت بطيئة جدًّا في الماضي لكنها في المقابل سريعة جدًّا الآن، فما أُنجز في المئة سنة المنصرمة، لم تنجزه البشرية في آلاف السنين، وبناء على هذا الإيقاع الجديد، لنا أن نتخيل ما يمكن أن يحدث في المئة سنة القادمة من تطورات وتقلبات..!!
وعودًا إلى (فرانكشتاين عراقي)، فإن النفس التقريري السائد في القصة والذي يهمّش الحكاية، هو الأنسب برأيي لاستيعاب حجم الألم الذي يشعر به الكاتب، فهناك مساحة كبيرة من الخيبة والخذلان لا تحيط بهما سوى لغة مباشرة لا تحتمل التأويل؛ لأنّ الحقيقة في واقع الحال أكبر بكثير من المجاز، بل أشدّ وأنكى. هناك غير قصة في المجموعة تسعى لاستشراف المرحلة المقبلة بالخروج على عمود القصة الكلاسيكيّة من خلال مزج القصة بالمقالة أو التداعي أو الخاطرة. ولعل هذه المجموعة برؤيتها وشكلها وتوجّهها خير دليل على ديناميكيّة القصة وقدرتها على التّكيّف مع القوالب والرؤى الجديدة.
ويبقى أن نقول إنّ القاص أسامة المجالي طبيب أطفال درس في اسطنبول، وفي رصيده عدة أعمال، وإنّ مجموعة (طقوس التذكر المحرّم) من إصدارات دار أزمنة للنشر والتوزيع للعام 2021.