الأسير رائد الشافعي استشعرت قباحتنا البشرية وقسوة هذا الكون المختلفة

– الدموع هي حديث الفجيعة.
– حيّ بالقهر والحبّ والحقد والوجع.
– الورد ضرب من الخيال.
– قلبي ما اعتاد سماع حكايا النزف الحقيقي.
الذي صار أسطورة لا شيء يُسعف ما تمزّق داخله.

المقدمة:
كل شيء في تصوّر الأسير رائد الشافعي قابلاً للتقليص في الحياة، وفي النصوص، الشخصيات والوظائف والملفوظات السردية والزمن والفضاء٠
لقد كانت “الزنزانة” عنده هي المدخل الرئيس للخروج من “فوضى” الحياة والإمساك بالنماذج السلوكية المجردة التي لن تكون في نهاية الأمر سوى قيم دلالية يُعرِّفها الناس في مواقف وانفعالات من كلّ الطبائع، التي علّمته الأفكار أنّ الزنزانة ما هي إلاّ صدى لهذا القبر المفتوح، الذي لا نهاية له.
وهو ما يوحي له الشافعي، لا يكتب نصاً خاصاً، بل ينتقي من الأشكال المتخيَّلة قصّة اخترعتها أنين سنوات لا يعرف زمنه.٠ وما بين الزنزانة والخيال خيط رفيع ربطه بالحياة، تملؤها مضامين جديدة لا تقوم سوى بمنح ما كان مجرداً في الذهن أو الذاكرة الجماعية وجهاً مشخصاً، يتّخذ شكل واقعة سردية تطول أو تقصر.
ورأى الأسير رائد الشافعي أنّ الكلمات في الخطاب الداخلي تعمل كأدوات نفسية. تماماً مثل استخدام مفك. لتفكيك شيء مُجمَّع، فتفكيك الأفكار إلى كلمات يعطيها شكلا ملموساً٠
كما تنبّأ “فيجوتسكي” بأنّ الخطاب الداخلي الخاصّ يجعل الشخص يسيطر على تصرفاته، حيث يستخدم كلمات توجِّه أفعاله٠
يستغرق الشافعي في حديثه عن الحياة وكأنّه يتحّدث عن نفسه، التي كانت دائماً مصدر إلهامه مبلّلة بمياه، موجها الصاخب، لحمه كلمات الحرية، دمه ماؤه العذب، صراعه مع الطغاة كأنّ صراع الحياة، أمّا الزنزانة فقد نقشت وشماً على جلده… أنا ولدت وفي فمي فلسطين والحرية.
سرق الطغاة الإسرائيليون منه فراشاته والبريق الذي أوقدوه تحت سنين عمره، وسروالا منه يقين عيناه، وتساءلوا أحقّاً يكون الذي في الزنزانة تباريح ضوء أسير الحرية رائد الشافعي٠
سكب الشافعي كلماته على صمت موْجه ٠٠٠
تقول الحكاية
إنّ الشافعي على ضِفَّةِ الحُلم يوماً يجيء النصر كالشُّهب في قلب السماء، فكان الحوار معه كوردة الجرح…
موت الكلام… اشتعال الملام…
حاوره سليم النجار- غصون غانم:

الأسير الشافعي من طولكرم اعتقاله في 28/7/2003 تعرّض للاعتقال وهو في سنٍّ مبكِّرة، كما تعرّض للمطاردة التي استمرت لمدّة عامين، كمّا تعرّضت عائلته للملاحقة والتضييق خلال تلك الفترة..
وعقب اعتقاله واجه تحقيقًا قاسيًا وطويلًا، وتعرّض للعزل الانفرادي، ولاحقًا حَكم عليه الاحتلال بعد نحو عامين على اعتقاله بالسّجن المؤبد.
عاش الأسير رائد الشافعي مأساة الفقدان خلال سنوات أسره، بوفاة طفلتيه (دُنيا، ورانيا) عام 2005، وحرم من وداعهما، كما فقد والده عام 2019.
للأسير الشافعي ابن ثالث اسمه فراس وهو الأصغر حينما اعتقل كان يبلغ من العمر 6 شهور.
خلال سنوات أسره حصل على شهادة الثانوية العامة، والبكالوريوس، والماجستير، وأصدر رواية بعنوان (معبد الغريب)، ويقبع اليوم في سجن (جلبوع).
سورتان وصورتان
لو لم تأتيا، لما كان للألوان.. للغناء.. لزهر البرقوق.. للنجمات.. للجمال.. لما كان لكلّ ذلك أيّ معنى.
لو لم ترحلا… لاحتفظ “هو” بكل ذلك المعنى … ولكان هذا الخلل الوجودي في انطفاء الورد ضرباً من الخيال.
السورة الأولى: دنيا، بينما كنت أصغي لاختلاجات ورعف ما تخلّل حديثه عن ” الدنيا” التي لم تنتظره حتّى يتحرّر، وكيف تلقّى خبر رحيلها عن الدنيا أثناء ذهابها لبيت معلمتها تحمل لها طبقاً من الحلوى، شعرت بشفقٍ يطال قلبي الذي ما اعتاد سماع حكايا النزف الحقيقة من أصحابها، حكايا أكبر من الأدب والروايات والملاحم وقصائد الرثاء الطوال… فدنياه ليست لدنيانا، هي طيرٌ محلقٌ في جنّته الصغيرة التي شيّدها على طريقته، تُشبهها الملائكة والآلهات… هي سرُّ حياته وأمله وبقاؤه، بِستِّ سنبلاتِ خضر، لم تكملهم ربّما لأنها بذكائها الفطري استشعرت قباحتنا البشرية، وقسوة هذا الكون المختلّ فقرّرت وكأنّها تمارس إحدى ألعابها الطفولية برفقة شقيقتها رانيا أنْ تختبئ وراء حجاب هذا الكون، حيث لا شيء هناك غير أشجار اللوز .
الصورة الأولى: رائد، أمّا أنت فأقوى ممّا تعتقد، وأرهف ممّا تبدو إذ يُخبرك أحدهم وأنت أسير زنزانتك الصغيرة أنّ دُنياك رحلت، يتأثّر كثيراً وهو يُبلغك بهذا الخبر الفاجعة، ثمّ يجلس لحظة إلى جوارك والكل صامتٌ على درجة مربكة، ويغادر كلّ ما حولك، ظلال صمت، سكون مخيف، كذب، والحقيقة الوحيدة الصارخة، هي حقيقة أنّ دنيا رَحلت، وكأنّ حلماً لم يكن. يطفئ الكون من حولك، يتهاوى كلّ شيء، توأد الأحلام التي شُيِّدت ارتباطا بضحكتها… لا ترى كل من حولك من المعزيين الأسرى، تُحلّق لمكان بعيد… يعود لذاكرتك ذاك المشهد الذي لا يضاهي حين خطت دُنيا أولى خطواتها فأزهر اليباس واغرورقت عيناك فرحاً بخطواتها التي أعلنت عن بدء فرح… و يا لقسوة هذا المنطق الوجودي الذي لأسباب لا تعنيك ولا تعنيها يُصّر أنْ يبتر المشهد من بدايته، بعد وقتٍ تبدأ بإقناع نفسك بأنّ جانب هذا الحزن البكر ما تزال تنبت ورود صغيرة بحاجةٍ ماسةٍ لوجودك وقوتك وتماسكك… تكذب على نفسك، تقنع قلبك بعكس قناعاتك وتبتسم بحزنٍ حين يخبرك أحدهم أنّها استحالت “طيرا من طيور الجنة” وأنت تقول في سِرك ساخطاً: و من قال أنّني أنجبتها حتّى تصبح طيراً؟!!
السورة الثانية: رانيا، النصف الآخر من الحلم المنشطر، وردةٌ تصغر دنيا بسنبلةٍ واحدة، تشبهها في كلّ شيء، تحتل الركن ذاته من وعاء عشقك الملحمي، لا تنفك تسأل عن نصفها الآخر “دنيا”، ويحكون لها في السماء… لا تصدقهم، تُحدّث قلبها الصغير بأنّ “دنيا” قريبةٌ منها، وتُواسي نفسها بلقائها القريب، وحدها رانيا تعلم فهي كدنيا ظنّت أنّ شقيقتها اختبأت أثناء لعبة “الغُميضة” في إحدى زهرات اللوز غير أنّها تضيق بهذا التأخير، حيث واظبت على الهمس في أذن دميتها الصغيرة متسائلة “هل أفتح عينيّ”؟! وتكرّر العدّ من الواحد حتّى ستّة على خلاف الصغار الذين ينتهون عند الرقم عشرة.
يومٌ اثنان… شهرٌ ثلاثة… ستة ويضجرها الانتظار تنوي مباغتة دنيا المختبئة داخل شجرة اللوز … تقرِّر الذهاب متحايلة على عمِّها بأنْ يأخذّها لكرم اللوز القريب مُتذرِّعة بنيتها قطف بعض حبّات اللوز من أجل إطعام معلمتها.
الصورة الثانية: (هو) يكتشف هو الذي ما يزال نزيل الزنزانة ذاتها رقم (٢١) أنّ الحياة لا تنفكُّ تمارس فجورها وقباحتها على جسد حلمه الصغير، لم يكن قد تدرّب على التعاطي مع هذا التتالي المفجع للفقد ولا تهيّأ لصفعةِ عدمٍ أخرى، ظنّ أنّه قدّم كلّ شيء، ودفع تلك الجزية الوجودية للعدم، ليفاجأ بالمشهد ذاته يتكرّر، وبعد ستة أشهر فقط، فهل يصدّق؟؟ هل يتصوّر؟؟ هل يبكي؟؟ هل يُجَن؟؟ هل ينفجر؟؟ وأيّ عقل سيتحمّل مجرّد التفكير في ذلك؟! وهل حقاً رحلت رانيا؟ (لكنها صغيرة _ يفكر _ صغيرة جداً، ولا ذنب لها …) بُكاء القلب لا دموع له … لذا يحدث ويموت القلب بذاك الصمت “السكتة” الدموع هي حديث الفجيعة، ثرثراتها مَنفسُ الحزن، وحين تنحبس يقع ذاك الانفجار المدّوي، انفجار يصيبك في عمقك… في ذاكرتك، دون أنْ يقتلك بكلك، يُبقي على جزءٍ من روحك حتّى تستطيع الشعور بالألم والعذاب.
أصغيت ثانية لشهقات قلبه، تصوّرته جافاً كصحراء، صامتاً كبئر، موحشا قاسياً كجليد، لكنّه حيّ بالقهر والحب والحقد والوجع والذكريات، ولم أجرؤ على النطق بكلمة… خذلتني لغتي أو أنّني أدركت عبثيتها أمام فداحة ما يحدث، عانقته بشدّة، إذ كنت ما أزال أشاطره الزنزانة ذاتها، وحينها بكى قلبي شَهق وصَمت لأيام، وهو الذي صار أسطورة لا شيء يُسعف ما تمزّق داخله، زاوله الفقد مهنة أبدية، ستةٌ من الشهور… وترحلان… معاً هما الآن في السماء ولكن نجمتان نراهما كلما اشتد الظلام، وتهتدي الطيور بنورهما حتى تتوه.
الصورة الأخيرة: فراس، شقيقهما الأصغر والوحيد، اقتنع مبكراً بأنّ الحياة أقبح من كونها لعبة (غميضة) طفولية، فقرّر ألاّ يخوض هذه التجربة ولن يخوضها أبداً إذ كَبر ونضج قبل أوانه… يريد أن يظلّ إلى جانب أمّه التي أعبأها الحزن، سنداً لها وحامياً لها من الأحزان، وامتدادا لأبيه الجبار الذي خرج إلينا من ملحمةٍ فنيقيةٍ ليلقننا درساً بقهر القهر، فقرّر الصغير أنْ يواصل رحلته في الحياة محتفظاً بصورتين وسورتين لنجمتين، مستشهداً بما حدث على قباحة ما حدث.