الأسير الصحفي منذر خلف… من أخطر أنواع الهزيمة تبريرها باعتبار أنّ الردّ قادم…

– نكبة ٦٧ خلقت أزمة مصطلحات سياسية في المشهد الثقافي العربي.
– المطلوب خطاب معرفي ولغوي وسياسي لمواجهة المشروع الصهيوني.
– ظهور القوميات في أوروبا أدى إلى اعتبار اليهودية قومية.
– العالم قائم على لغة المصالح.
– المقاومة الشعبية تؤدّي لاختراق جبهة إسرائيل نفسياً وأخلاقياً.
– النكبة الفلسطينية تحمل في طياتها المأساة الإنسانية المعاصرة.

المقدمة:
عند وصولك إلى الوعي الحقيقي، وما العقل، تقنيك التام بعدالة قضيتك الوطنية والإيمان بها، تصبح إنساناً قوياً تستطيع فهم هذا العدو الإسرائيلي الذي يحاول إلغاءك وشطب وجودك من الحياة، وكأنّك كنت عابرًا في التاريخ، ولمواجهة هذا العدو الإحلالي، فالفكر وحده هو الذي يرى اللامرئي لمخطّطات المحتلّ الإسرائيلي، لذا ستراه بعين العقل، وتشعر به وتسميه، بأسمائه الحقيقية، التي يستحقّها بعيدًا عن الدبلوماسية، فهذا العدوّ يقوم يومياً بتوسّع استيطاني في الأراضي الفلسطينية، واعتقالات تطال كلّ الفلسطيني، وإعدامات يومية وبشكل مباشر وأمام مرأى العالم، وحرب إبادة تُشنُّ ضدّ الفلسطينيين.
الأسير الصحفي منذر خلف في حوارنا معه، حذّر من أنْ يعتقد أو يتوهم العدو أنّ هناك صمتاً، من قِبل الفلسطينيين على جرائمه، فالصمت ليس نسيانا، والأرض صامتة وفي جوفها ألف بركان٠
وأكدّ خلف في حواره معنا الذي جاء على شكل قراءة نقدية لواقع الحال الفلسطيني، إنّ الهوى الوطني الذي يُكتب تحت جنحه لبلد وليس إلى شخص، أو فئة، فالبلد خالد وباقٍ وما يقال فيه يخلد معه.
منذر خلف حلّق في الفضاء العربي الفلسطيني ساعياً وراء فك ألغاز المحتل الإسرائيلي وأسراره.

حاوره سليم النجار- غصون غانم
الأسيرُ منذر خلف مفلح من قرية بيت دجن قضاء نابلس، وُلدَ في الكويت عام 1976، وحاصلٌ على بكالوريوس صحافة وإدارة أعمال عامَ 2001 من جامعة النجاح الوطنيّة، وماجستير في الشؤون الإسرائيليّة من جامعة القدس (أبو ديس) عام 2018، أثناءَ وجودِهِ داخلَ المعتقلات الصهيونيّة.
وتعرّض منذر للاعتقال أوّلَ مرّةٍ عام 1994، قبلَ تقديمِهِ امتحانَ الثانويّة العامة بأسابيعَ عدّة، حيث حُرم منها، وبعد الإفراج عنه عاد لتقديم الثانوية العامة ونجح فيها بامتياز، ومع بداية عام 1999، بدأ الاحتلالُ بملاحقته، لتندلعَ بعد ذلك بعام انتفاضة الأقصى ليستمرَّ منذر في عمله النضاليّ، إلى أنْ اعتُقِل عام 2003 وحُكِم عليه بالسجن مدّة 30 عامًا.
والأسير منذر هو عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين، وله العديد من المقالات والدراسات والأبحاث المنشورة، وله مجموعةٌ من القصص والقصائد، وصدر له عن دار الفاروق للطباعة والنشر في نابلس، رواية/سردية “الخرزة” عام 2020.

الكارثة والنكبة
تحت مصطلح النكبة من قبل المفكر القومي “قسطنطين زريق” في محاولة منه لترسيخ الكارثة السياسية والعسكرية والإنسانية الشاملة التي حلّت بالشعب والمجتمع الفلسطيني وللتعبير عن هزيمة العرب، والبدء بالتأسيس لإطار معرفي في أذهان العرب والفلسطينيين والعالم أجمع، أو محاولة لتجذير مفهوم تعريفي لما أُطلقَ عليه احتلال فلسطين أو حرب 48 (إقامة دولة إسرائيل) ونتائجها الكارثية على الشعب الفلسطيني وللتأسيس للصراع الشامل بين العرب والصهيونية، وخاصةً في بعده التحريري العسكري أي أنّه تحديد معرفي أو إطارٌ معرفيٌّ تعريفيٌّ للحدث الذي أصاب الفلسطينيين والعرب جرّاء احتلال فلسطين، وهو أمر اعتراه قصور وذلك لأنّ هذا المصطلح (النكبة) أخذ طابعاً معرفياً ولغوياً قومياً يخصّ قومية بعينها دون غيرها، أيّ أنّه لم يستطع أنْ ينقل الأبعاد المفاهيمية المأمولة منه للعالم أجمع، فهل كان يقصد “زريق” بإعادة تعريف النكبة بمن وقعت عليهم النكبة وذاقوا مرارتها؟ أم أنَّ المقصود كان محاكاة لمفهوم الكارثة التي ألمّت باليهود في أوروبا؟ أم أنّه محاولة لصياغة أبعاد إنسانية وتاريخية وقانونية وحقوقية تأخذ البعد الدولي تماماً كمصطلح الكارثة؟
وهنا يكمن القصور بمصطلح “النكبة” والذي يستدعي إعادة تعريف المصطلح للتساوق بشكل أكثر دقّة مع الأبعاد المفاهيمية التي يفترض به أنْ يحملها، فاحتلال فلسطين أو ما اصطلح على تسميته بـ “النكبة” ما هو إلاّ حدث من سلسلة أحداث الكارثة، وليس حدثاً منفصلاً بمعنى فصل النكبة (احتلال فلسطين) عن سلسلة الأحداث الأُخرى في العالم، خاصّة فيما يتعلّق بالتطوّرات السياسية والعسكرية في أوروبا وتحديداً الحرب العالمية الثانية، وهنا نقترح إعادة صياغة تعريف النكبة.
لقد جاءت الكارثة وعبّر مصطلح الكارثة لاحقاً في سياق أحداث عالمية ودولية كبرى وخاصةً الحرب العالمية الثانية، وفي إطار إدانة النازية واستغلالها هذه الكارثةَ لتمرير مخططات لصالح قوى أُخرى تمّ استخدام خطاب الكارثة لتبرير إقامة إسرائيل، وتعويضاً ليهود أوروبا عن مآسي الكارثة أوروبية المنشأ والأسباب والآثار، فهل ينفصل احتلال فلسطين عن الكارثة ذاتها؟!
لقد أسّست الكارثة للنكبة كما أسّست لإطار فلسفيٍّ ومعرفيٍّ، حيث تحدث مثلاً المفكر الفرنسي “جان جيوتار” عن موت الحداثة أو انتهائها مع وقوع الكارثة، “أوشفيتز” على وجه الخصوص معلناً في الوقت ذاته عن موت المرويات الكبرى التي سادت ذلك العصر بحسبه، تلك المرويات التي رُوَت أو تروي الصيرورة التي قطعها أو سيقطعها الوجود الإنساني الذي يهمّ في حديث المرويات أنّها أعطت للمفاهيم والمصطلحات قيماً في اطار صيرورة الوجود الإنساني وتعريف الصراع الإنساني باعتباره صراعاً من أجل التقدّم والحرية والعدالة والمساواة والإخاء (شعارات الثورة الفرنسية الكبرى).
وبها المعنى تحمل نكبتنا الفلسطينية وباعتبارها جزءا من أحداث الكارثة تحمل في طياتها المأساة الإنسانية باعتبارها عملية احتلال وتحطيم لشعب ومجتمع وكينونة قومية، وحمل أيضاً الحقّ في الدفاع عن النفس كموضوع إنساني وتجسّد الكفاح من أجل الحرية والتحرّر من الاضطهاد، كما أنّها تحمل طابعاً تعليمياً معرفياً فلسفياً من أجل نقد هذه المعاناة وما تحمله من مضامين إنسانية وأبعاد تاريخية للشعوب الأُخرى والأجيال اللاحقة، تماماً كما حملت الكارثة طابعاً جعلت من وجود النكبة أمراً مستساغاً ومقبولا لدى الدول الأُخرى من أجل إيجاد ملجأ لليهود (دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين وشعبها) وعليه فإنّ معالجة الكارثة يقتضي اليوم معالجة آثار النكبة باعتباره جزءًا من كلّ، ولأنّ هذه الكارثة التي ألمّت باليهود حملت فيما بعد مبدأً كونياً ومعرفياً وانسانياً، وتحوّلت جزءا من الذاكرة الإنسانية والعالمية وأصبحت تقليداً دولياً وحملته الكتب والمكتبات وتحدث عنه المفكرين والفلاسفة بأنّ النكبة التي هي جزء عضوي من الكارثة يجب أنْ تعتبر بذات السياق وتتحوّل إلى مبدأ كوني أو جزءً من ذات المبدأ، وبهذا المعنى تصبح المعرفة الكونية للأحداث التاريخية الكبرى كالكارثة وتبعاتها (النكبة) على التصاق شديد أو هكذا يجب أنْ تكون بقضايا التحرّر الإنساني في البعدين السياسي والمعرفي، وهنا يكمن الخلل في فصل حكاية النكبة عن الأسباب التي أدت إليها ، لقد وقعت الكارثة فيما سبق حين ربطت النازية فلسفياً ومعرفياً مصير الكون بمصير الشعب والعرق الألماني دامجاً الصيرورة الوجودية للإنسانية بمصير العرق الألماني، وفي ذات الاتّجاه وقعت النكبة حين استعارت الصهيونية ذات المبدأ رابطةً الكون والشعوب وتحديداً الشعب الفلسطيني بمصير ما سمي “الشعب/ العرق اليهودي” على أرض الرواية الثانية (فلسطين بدلاً من أوروبا) منتجةً النكبة تماماً كما أنتجت النازية الكارثة، وبهذا المعنى ينبغي أنْ تستدعي المعرفة المحدّدة التي يثيرها مصطلح النكبة أو يفترض أنْ يثيرها موقفاً سياسياً تماماً كما حدث في اصطفاف القوى العظمى إلى جانب الحركة الصهيونية في ٍإقامة دولة اليهود على أرض فلسطين (النكبة).

الخطاب والتأسيس المعرفي والسياسي: –

إنّ النكبة كخطاب معرفي ولغوي وسياسي يجب أنْ يتمّ التأكيد عليه باعتبار النكبة حدث أو جزء من سلسلة أحداث الكارثة أو مرحلة ثانية منها، لاعتبارها ألمّت بطرفين (اليهود في أوروبا والفلسطينيين في وطنهم)، لقد قدم “هرتزل” في كتابه “دولة اليهود” المشكلة اليهودية باعتبارها مشكلة ومعضلة إنسانية وعلى العالم أنْ يجدْ لها حلاً بالتوازي مع المشاكل العلمية والسياسية آن ذاك، واعتبر أنّ مشكلة اليهود تبلورت عبر التاريخ وأنّ على الشعوب التخلص منها، كلّ الشعوب ولم يخصّص شعب بعينه، داعياً إلى حلّ المشكلة عبر خلق حيّز دولاني (دولة لهم تتسع لمشاكلهم) وتكون متضمنة في الإطار الاستعماري الكولونيالي المترافق أو الذي تبع ظهور القوميات في أوروبا معتبراً أن اليهودية قومية بحد ذاتها، فيما عملت الصهيونية على خلق ما سُمِيَ “الشعب اليهودي” بحسب “شلومو ساند” في كتابه “اختراع الشعب اليهودي” أو تحويل المشكلة الإثنية (اليهود واليهودية) إلى مشكلة سياسية حيث تمّ التعاطي معها عبر النظام الدولي الآخذ بالتبلور في ذلك الحين بهذا فقد حدّد “هرتزل” خطاباً معرفياً مؤسّساً لمرحلة سياسية قامت أوروبا إما بالسياسة والقانون الدولي وإمّا بالحرب الكارثة على تنفيذ هذا الخطاب وتحوليه لمشروع سياسي على أرض فلسطين وعلى حساب الفلسطينيين، وبها فإنّ النكبة يجب أنْ تُحوّل إلى مشروع خطاب معرفي وسياسي يقوم على اعتبار أنّها الكارثة أولاً وأخيراً، أو باعتبارها أحد أهم أحداث هذه الكارثة وهذا يستدعي بناء خطاب سياسي فلسطيني وعربي ضمن هذا الخطاب أو التوجّه، في مقابل ذلك فإنّ خطاب النكبة أو الكارثة الحقيقية يجب أنْ يحمل مضامين معرفية وسياسية واضحة ومحدّدة سلفاً تماماً كما حدّد “هرتزل” والحركة الصهيونية خطابها وأسّست لقوّة الخطاب إنشاءً كاملاً من المعلومات والأحداث التاريخية وعليه أنْ يكون في ثلاثة مستويات أو ثلاثة أُطر معرفية الأطراف الفاعلة في الصراع الإسرائيلي الذي تشكّل لاحقاً لعملية النكبة، وبعد أن انتهى أو غاب مشروع تحرير فلسطين وإعادتها لأصحابها مقابل إطلاق مشروع التسوية التاريخية؛ لقد حمل سابقاً العرب شعار “ما أُخذَ بالقوّة لا يُسترد إلّا بالقوّة” في مواجهة الاحتلال وفي التعبير عن الإطار المعرفي والاستعداد لموقف سياسي يقوم على التحرّر والقوّة العسكرية، أما الحديث اليوم فيدور حول عملية سياسية أو نضالية في إطار البعد الدولي أو القانوني الذي أكّد عليه “هرتزل” لحلّ مشكلة اليهود فإنّنا مطالبون اليوم بذات المنطق، فالخطاب الفلسطيني هو جزء من عملية اتصال باعتبار الخطاب جزءاً من عملية تواصلية ويشمل كافّة عناصر الاتصال التي جاءت عليها كلّ نظريات الاتصال والإعلام أو بحسب المفكر الفرنسي “جان فرانسوا ليوتار” مستويات التركيبة التواصلية الثلاثة: (مرسل، مرسل إليه، مرجع)، والمرجع هنا يكوون لغوياً أولاً حيث يشير “ليوتار” إلى ما أسماه “ألعاب اللغة” وهي مجموعة من القواعد والشروط والخصائص التي تسمح بفهم وتداول منطوقات معينة، ويشترط أيضاً انتماء الأطراف المتحاورة باعتبار الصراع عملية حوار أو تواصل أنْ تنتمي إلى المرجع نفسه وكذلك الإطار المعرفي والسياسي؛ لقد تحدّثت نظريات الاتصال عن أهمية المرجعية الفكرية والإطار المرجعي لكلّ فرد في عملية التواصل ولكن هنا يحدث أنْ يكون المرجع هو أولاً الإطار المعرفي لكلّ طرف، بالإضافة إلى القانون الدولي كبعد مرجعي أي أنّ عملية التواصل إمّا أنْ تكون بين طرفين وبالتالي الخطاب (مرسل، مستقبل) في إطار القانون الدولي والخلفية المرجعية للطرفين أو عملية اتصال مفتوحة بثلاثة أطراف أو أكثر، وفي كلا الحالتين على الفلسطينيين إتقان اللغة وخطاب قادر على إحداث التأثير المطلوب فيهم في عملية التواصل، وإحداث التغيير المأمول في سلوك المستقبل وفي ذات الإطار المرجعي وليس خارجه، وذلك لضمان تحقيق النجاح المطلوب من الرسالة المراد إيصالها.
لقد نجحت الصهيونية وإسرائيل لاحقاً في إدارة عملية اتصال ناجحة من خلال استغلال الخطاب والخلفيات المرجعية في تحقيق أفضل النجاحات والتي ما زلنا نشهدها عبر عملية سياسية ما زالت تتمتّع فيها إسرائيل والحركة الصهيونية بتأييد جِدّي على مستوى العالم، حيث كانت الكارثة هي الأساس في الخطاب، أمّا فيما يخصنا فنحن مدعوون لعملية اتصال ناجحة لخلق صدع في الطرف الآخر أو خلفيته المرجعية واستغلال واستخدام الإطار المرجعي (المؤسس) الكارثة باعتبارها جزءاً من تاريخنا المأساوي تماماً كالحركة الصهيونية، فلسنا مدعوين لإنكار الكارثة رداً على إنكار إسرائيل النكبة بل العكس لأنّ إنكار إسرائيل (النكبة) هو مدعاة لأنْ نحييَ سنوياً كارثتنا المشتركة (كارثة اليهود على يد النازية في أوروبا، وكارثة الشعب الفلسطيني على يد الحركة الصهيونية في فلسطين) كحدث واحد.