– ربّما يظنّ الكثير من الناس أنّ أكثر الأماكن ملاءمة للكتابة هو السجن.
– الصدفة قادتني إلى قراءة رسالة موجّهة لطفل من قبل أسير، استفزتني وجعلت كلماتي تعبِّر عن هذه الحالة.
– التهمة التي أدخلتني إلى المعتقل الإسرائيلي مقاومة المستوطنين.
– ألّفت كتابا وأنا في الزنزانة “الفهم الصحيح للإسلام”.
– تحرّرت من سجون الاحتلال بعد 22 عاما وعشرة أشهر قضيتها في سجون الاحتلال.
– الكتابة في السّجن موضوع آخر.
المقدمة:
لقد ظلّ مفهوم “السّجن” في ثقافتنا وفي التراث الإنساني حبيس النص الوطني/ والمغيَّب عن عيون القرّاء، ومحصورًا على رفوف المكتبات. غير أنّ طبيعة السجن الصهيوني باعتباره كياناً اغتصابيا وانتهاكاً لآدمية الفلسطيني، وله دلالات متعدِّدة، أقلّها إلغاء هويته، أمّا الوظيفة التي يمارسها السّجّان الإسرائيلي هي إحلال التاريخ المزوَّر، وتكريس السجن كتاريخ للفلسطيني، وكأنّه مجرم جنائي، ارتكب ما يُخلّ بقيمة إنسانية، فالدفاع عن فلسطين هو جريمة جنائية في عُرف الصهيوني، لذا استحق الزنزانة.
الأسير محمد المقادمة الذي حاورناه، وكتب كلماته في المعتقل، كاختراق هذا الصمت الفاجر، الذي يلفّه الغموض، فالأسير المقادمة مارس حقّه في الحياة، وكشف عن هذا المكان، الذي ينتهك آدمية الفلسطيني. كما امتلك القدرة لأنْ يُحوِّل جدران الزنزانة إلى رحم للإبداع، وانطلاقا من ذلك، فالكتابة عند أسير الحرية هي اكتساب فنون الحياة من الآخر/ الإسرائيلي؛ ذلك أنّ كتابة الأسير تحمل استلهامه الذاتي الحقيقي؛ وبها يتسامى الإنسان الأسير عن حرقة الزنزانة. فكتابة الأسير إحدى مفردات للحضارة المعاصرة، هذه الحضارة التي مارست صمت الشيطان على ما يجري في معتقلات الموت الإسرائيلي.
محمد المقادمة في حواره معنا قال كلمته الحيّة:
حاوره سليم النجار- غصون غانم.
الأسير المحرّر والكاتب محمد المقادمة هو ابن مخيم البريج في قطاع غزّة ولد بتاريخ 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1979، وهو أعزب، أمضى سنوات سجنه في سجن نفحة الصحراوي، كان الاحتلال قد اعتقل “المقادمة” بتاريخ 12/9/2001، بعد محاصرة المنزل الذي يقيم فيه في مدينة قلقيلية بالضفّة الغربية حيث كان يعمل هناك، ونقلته إلى التحقيق في مركز عسقلان، والذي استمر معه لأكثر من شهرين ونصف في ظروف قاسية باستخدام أساليب التعذيب المحرّمة كونه متهم بأنّه خطير وأصدرت محكمة الاحتلال بحقّه حكماً بالسجن 21 عاماً، إضافة إلى 10 شهور وكان عمره لا يتجاوز حينها 22 عاماً، وذلك بتهمة المشاركة في عمليات للمقاومة ضدّ المستوطنين الصهاينة وقوات الاحتلال؛ وقد تحرّر الأسير محمد المقادمة بعد 22 عاماً و10 أشهر قضاها في سجون الاحتلال .
للأسير المحرّر المقادمة مجموعة من الكتب والروايات التي ألّفها خلال فترة اعتقاله، وهي كتاب “الفهم الصحيح للإسلام” و”روايتي خارج الصورة” و”الراوي الأخير”، وهو حاصل على عضوية اتّحاد الكتاب الفلسطينيين من مقرّ الاتحاد في القدس المحتلّة؛ وخلال سنوات اعتقاله ألّف مجموعة من الكتب والروايات وهي “كتاب الفهم الصحيح للإسلام وروايتي خارج الصورة والراوي الأخير”.
دقّت الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل
والليل يشتد حلكةً وظلمةً والسكون هزيع وبقايا قطرات من الأمطار تذرف على بيتٍ عتيقٍ تسكنه الوحشة وصوت لحنٍ حزينٍ… وآلام لم تنقطع منذ أنْ غاب عن الأهل والصديق وأصبح جمع للعفاريت، وقصص الخرافات تروى فيه.
البيت الذي كانت تدب فيه الحياة، أطفال تسرح وتمرح وتلهو، وزوجان كانا يجمعهم الحبّ والحنين وأحلام وآمال كانت ترسم معالم الطريق، لقد تبدّدت بعد أنْ سُجن “الزوج والأب والحبيب، وتناثرت وحلّ مكانها حسرة ومستقبل مجهول غير مضمون”.
الليل يشتدّ ظلمة والرياح تزداد سرعتها، تقلع الجذور وشجيرات وأعواد العطور وأوراق الخريف وأشجار ترتجف وترتعش.
والعتمة أصبحت مجنونةً يطاردها شبح الفجر وعواء كلب قد ضلّ الطريق، فإذا بالنافدة تطرق من الريح توقظ النوم من سبات طويل، تفزع الأم من فراشها وطفلتها تصرخ والصبية في هلعٍ وخوفٍ تسبّب من طرقةِ الشباكِ اللعين، التصقت الصغيرة بأمِّها، حتّى الأكبر منها فعلوا كما فعلت فالكلّ محتمون بأمِّهم وهي تأخذهم تحت ذراعيها تضمّهم بقوّة إلى صدرها كي تشعرهم بالأمان وتمسح عن عيونهم دموعاً تلهب الجمر والأمّ في حيرة من أمرها، تقول في نفسها: أين أنت يا ملهم الصبر ومثبت القدم ومرجع الرّوح بعد أنْ يصبح الجسم رميم؟
يا الله …. يا الله لقد جاء الأمل الضئيل بعد وقتٍ طويلٍ.
جرس التليفون يدقّ ويدقّ والخوف ما زال مدوياً يسكن البيت وصراخ عنيد..
حتّى قام الابن الأكبر فرفع سماعة التليفون وهتف بأعلى صوته أمّي تعالي… لقد أتى الخبر السعيد… إنّه من “المنسق” يقول إنّه قد سمح لنا بزيارة أبي فما كان منها إلاّ أنْ أخذت سماعة التليفون تتأكّد من الكلام وفي ذهنها رغبة عارمة ترجو أنْ يكون أكيدا.
نعم لقد كان البعث من جديد “حياة” وبصيص أملٍ جاء مع تباشير وتغاريد إنّه الخبر السعيد، لقد سمح لها ولأطفالها بالزيارة غداً… وأخبروها أنّ الحافلة سوف تأخذهم الساعة الخامسة صباحا من أمام المسجد القديم.
لقد عمّ الفرح في أرجاء البيت وطُردت منه العفاريت وتعالت فيه الزغاريد والكلّ ينتظر طلوع النهار ويسأل كيف سيكون اللقاء.
اللهفة ترفّ وتحلِّق كأسراب الحمام… لم يعرفوا ليلتها النّوم والكلّ يفكِّر ويسرح ويجول ذهاباً وإياباً ويسأل نفسه هل سنراه غدًا؟ هل سنلقاه؟ هل سنكلمه؟ هل وهل أسئلة كثيرة ولا أحد يعرف ماذا يجب؟
وأخذت الزوجة تسترجع الذكريات، كيف تعرفت عليه وكيف تزوجت منه وكيف كان يعاملها؟ لقد تعرفت عليه في صغرها منذ نعومة أظافرها، لقد كان جاراً لها وصديق أخيها الأكبر. كان حباً بريئاً طفوليا ً كان يكبر شيئاُ فشيئاً ويثبت جذوره في عمق الأرض وتعلو فروعه إلى السماء… كان حبّا من خلف الباب، بدأ بنظرة بريئة تعقبها كلمة رقيقة، استمر إلى أمدٍ بعيدٍ.
كانت النظرة عشقاً ملتهباً تؤجّجه المشاعر… وزواجها كان أشبه بزواج أميرة، فارس يأتي على حصانٍ أبيضٍ يأخذها ويطير معها إلى دنيا غير الدنيا.
كان يسقيها حبّاً ويطعمها سكينةً وأمانًا، وكان كلّما رزقهم الله بطفل، جدّد فيهم الأمل وزادهم وفاء كانوا أشبه بعصفورين.
لقد استرجعتْ كلّ ما دار معها من ذكريات لا تُنسى، ثم تزاحمت في مخيِّلتها وجالت الأسئلة في رأسها هل تغيَّر أم ما يزال على هيئته؟ هل ما زال يذكِّرنا؟ لقد كانت في حالة اضطراب وقلق حتّى أنّ أنفاسها كانت تسمعها “العيان”، ثم شعرت برغبةٍ ملحةٍ في البكاء فانخرطت في البكاء فذابت عيناها وسال من دموعها أنهار نبتت على ضفتيها أزهار، كأنّ الربيع أشعّ من جديد ثم عادت إلى واقعها، وبدأت تجهِّز أغراض الزيارة وتتفقّد الأوراق الثبوتية، وعقارب الساعة تتسابق فيما بينها لقد دقت الساعة الثالثة صباحاُ، وما زال أهل البيت في حالةٍ غير طبيعيةٍ، العيون متلهفة شاردة ورغبة عارمة وأذهان حائرة.
ثم أخذت تدعو الله أنْ يسهِّل طريقها وأنْ يحفظها ويحفظ أولادها وكان البكاء يسبق دعاءها. والصبية يشعرون بالسعادة المطلقة حتّى الصغيرة شعرت بذلك وهي لم تعرف له حجما ولا شكلا، فقد سجنوه قبل أنْ تخرج إلى الحياة. كانت في رحم أمِّها حين أخذوه سلبوه حريته، ثمّ انطلقوا وهم يتسابقون إلى الخزانة كي يرتدوا ملابسهم الزاهية كأنّهم شهدوا العيد أو ارتقبوه من قريب، كان يترنّمون ويهلّلون فرحين بلقاء أبيهم الذي لم يروه منذ سنين.
وها هي المساجد تعلن اقتراب أذان الفجر بقراءة القرآن وبالدعاء والتسبيح؛ تخرج الأمّ وأطفالها في عتمة الليل والنهار ما زال يختبئ في عباءته.
الشارع خال إلاّ من بعض الشيوخ الذين يواظبون على صلاة الفجر في المسجد العتيق؛ كانوا يمشون ببطءٍ والأم وأطفالُها يطاردون الليل يسابقون الريح حتّى وصلوا إلى أعتاب المسجد القديم ولكنّهم لم يجدوا الحافلة، هل تأخّروا أم جاءوا أبكر مما اتُّفِق عليه؟
انتظروا على خوفٍ وأملٍ غريبين مثقلين بالهمِ والحنين، وبعدَ انتظارٍ ليس بطويل جاءت امرأة عجوز، جسدها نحيف تمشي وتتباطأ وتتعثّر على طول الطريق. تحمل على رأسها أشياء وكأنّها ذاهبة إلى عرس وفرح قريب… لقد جاء من يؤنس الأمّ ويحكي لها عن تعب الأيام ومرارة السنين؛ ما زال القرآن يرتَّل في المسجد وأصوات التسبيح تبعث الدفء والراحة لها منبع أصيل؛ وبدأ توافد الأهالي من كلّ صوبٍ والكلّ يتجمع بجانب المسجد ويسأل ويحكي ويقصّ والكلّ ينتظر قدوم الحافلة… والبرد يلتفّ عليهم يجمِّد الماء في الزير والريح تعلن أنّه قد اقترب الرحيل، والأمّ وأطفالها ما زالوا يترقّبون. من بعيدٍ ضوءَ سيارةٍ أظنّ أنّها الحافلة، لقد جاء لنا، أشاحوا بأيدهم ولوحوا له بالمناديل… لقد رآنا إنّه يقترب منا… لقد وصل …
تقف الحافلة بجانب المسجد فيفتح الباب وينزل منه المنِّسق فيحييهم بتحيّةٍ ثم يطلب منهم الأوراق الشخصية ويركب الجميع في الحافلة والكلّ يضحك وهو مستبشر بأمل أنّه لم يبقَ إلاّ القليل وتنطلق الحافلة بسرعة كأنّها بساط الريح، وها هو الفجر يخلع عباءته والنور ضئيل يشقّ زمام العتمة وما تزال الأمّ وأطفالُها في حيرةٍ وضياعٍ لا يعرفون ما ينتظرهم وعلى رغم تلك الفرحة التي عمّت حين ركبوا الحافلة كان على قدرها سكوت وخوف من الرجوع… الوجوه مألوفة لكنّها شاحبة وصوت مبحوح والأنفاس تزداد سرعتها كلّما اقتربت الحافلة من الحاجز العسكري يافطة مكتوب عليها “قف الحاجز العسكري أمامك” صوت مكبِّرات الصوت غير واضح والكّل يسأل ماذا يقول، ينزل المنسِّق فيذهب باتّجاه الجنود وبعد أقلّ من عشر دقائق يعود إليهم يقول: على الجميع النزول من الحافلة والاصطفاف بجانبها ومن يسمع اسمه يذهب إليهم للتفتيش هذه هي القوانين وبدأت الأسماء تُنادى عبر المكبِّرات والكلّ يذهب ولا يعود حتّى جاء اسم الأمِّ وأطفالها فأخذهم الخوف والفزع والارتباك والحيرة ماذا سيلقونه منها؟ هم يقفون أمام الجنود وجهاً لوجه، وجوه ليست كوجوه البشر وجوه متّشحة بالسواد وجوه جامدة يتحدَّثون فيما بينهم لغة ليست كلغتهم.
تقترب مجنَّدة من الأمّ فتسألها عن اسمها وعن زوجها الأسير وعن أسماء أطفالها ثمّ تتابع تفتيشها بدقّة حتّى أطفالها، ثمّ تفتيشهم بالكامل، الأمّ تنتفض غضباً وخوفاً والصغيرة تبكي لروع ما تراه.. لقد كانت معاناة كاملة لا يرُحم فيها الشيخ الكبير ولا الطفل الصغير ولا حتّى المريض، الكلّ متساوٍ في المعاناة، وبعد وقتٍ طويلٍ تنتهي المرحلة الأولى من حلقات التفتيش، ثمّ يركب الجميع من جديد في الحافلة إلاّ شاب أرجعوه وقالوا له: غير مرحبٍ بك وغير مسموح لكَ بالزيارة؛ ثم سارت الحافلة ولكن ليس لوحدها هذه المرّة بل كانت سيارتان عسكريتان واحدة تتقدّمه والأخرى خلفه وكأنّه بين فكي كماشة لا انفكاك منها.
وبدأت مسيرة العذاب ورحلة الهموم مع توجّههم إلى السجن الكبير إلى ظلمة القبور… كان الطريق طويلاً حتى خُيِّل لهم أنّهم قطعوا أميالاً قبل الوصول إليه… حتّى أرهقهم التعب فغلب عليهم النعاس فأُغلقت العيون… ساعات وساعات والحافلة تسير.. وبدأت تظهر معالم السجن بأسواره العالية وأسلاكه الشائكة… تتوقّف الحافلة أمام باب السجن الشاهق والكبير… باب مخيف يعتريه الظلم والقهر؛ ظاهره أليم وداخله مرارة السنين وعذابات السجين وظلم السجّان تشتمّ من خلفه أنفاس ملتهبة تحلم بالحرية… وأصوات المكبِّرات تصرخ: على الجميع النزول من الحافلة والتوجّه إلى الساحة. وبدأ النداء على الأسماء والكلّ يترقّب حتّى جاء دور الزوجة وأطفالها فتحرّكوا بخطوات مثقلة متراخية خائفة إنّها المرحلة الثانية من حلقات التفتيش الدقيق.
ثمّ يتّم استجواب الأمّ عن سبب الزيارة وعن زوجها وبعد عناء طويل يسمح لها ولأطفالها بالدخول وانتظار موعد الزيارة… والأمّ وأطفالها وأهالي الأسرى في غرفة الانتظار ينتظرون بفارغ الصبر والشوق والاشتياق.