تمرُّ ذكرى الخامس عشر مِنْ أيَّار، ذكرى النَّكبة، ذكرى التَّهجير الجماعيّ والمجازر الوحشيَّة؛ تمرُّ، هذا العام، مخضَّبةً بدماء عشرات الألوف من الشُّهداء؛ شُهداء غالبيَّتهم العُظمى من الأطفال والنِّساء.. شُهداء قضوا خلال أشهر، وخلال حربٍ واحدة.
وتتفرَّعُ مِنْ هذا الدَّم الغزير الطَّهور خيوطٌ بهيَّةٌ؛ خيوطٌ تمتدُّ مِنْ فلسطين إلى اليمن، ومِنْ فلسطين إلى لبنان، ومِنْ فلسطين إلى العراق.
كما تمتدُّ مشاهدُ البطولة والفداء أيضاً، مِنْ فلسطين إلى اليمن، ومِنْ فلسطين إلى لبنان، ومِنْ فلسطين إلى العراق.
ذكرى النَّكبة، هذا العام، مضمَّخةٌ بعبير المقاومة، وفائحةٌ بشذا البطولة، ومخضَّلةٌ بعبق الفداء، ومعطَّرةٌ بأريج المجد..
وصحيح أنَّ التَّضحيات جسيمة، وأنَّ الدَّمارَ فوق حدود الوصف؛ لكنَّ خسائرَ العدوّ، بالمقابل، غير مسبوقة.. خسائره هائلة؛ ليس في العديد والمعدَّات فقط؛ بل أيضاً، وأكبر مِنْ ذلك، في المستوى الاستراتيجيّ والمدى التَّاريخيّ..
لقد قلبت عمليَّةُ السَّابع مِنْ تشرين أوَّل (أُكتوبر) مسارَ التَّاريخ.. تاريخ القضيَّة الفلسطينيَّة، وتاريخ الصّراع العربيّ الصّهيونيّ، تماماً؛ بل إنَّها ساهمت أيضاً بقسطٍ مهمٍّ في تغيير مسار تاريخ العالم بمجمله..
ولأوَّل مرَّة، تمرُّ ذكرى النَّكبة، بعيداً عن مشاهد النَّدب واللطم؛ بعيداً عن لغة الهزيمة والإحباط..
تمرُّ معزَّزةً بقوَّة الإرادة والتَّصميم..
تمرُّ وقد انفتح التَّاريخُ على أُفقٍ وضَّاء؛ وقد أصبح النَّصر هدفاً واقعيَّاً، وأصبحتْ نهايةُ المشروع الاستعماريّ الصّهيونيّ الاستيطانيّ الإحلاليّ العنصريّ مُدرَجَةً بوضوح على جدول أعمال التَّاريخ..
تمرُّ وقد تعرَّتْ تماماً، على وَقْعِ الجرائم الصّهيونيّة الوحشيَّة في غزَّة، جميعُ أكاذيب الدَّوائر الرَّأسماليَّة الإمبرياليَّة عن الحُرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان؛ تلك الأكاذيب الَّتي طالما استُعمِلتْ لاستعمار البلدان، واستعباد الشُّعوب، وامتهان كرامة البشر وهدر حقوقهم، وارتكاب أفظع الجرائم بحقِّ النَّاس الآمنين المطمئنِّين في بلدانهم..
تمرُّ ذكرى النَّكبة وقد انكشفتْ عورةُ كُلِّ اتِّفاقيَّات الاستسلام البائسة ومشاريعه الخائبة.. كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة، وما يُسمَّى حلّ الدَّولتين وسوى ذلك، ليعود ناصعاً قويَّاً مشروعُ التَّحرير.. تحرير فلسطين كاملةً، من البحر إلى النَّهر، وتحرير سائر الأراضي العربيَّة المحتلَّة..
يعود ليكون مشروعاً مصاغاً بلغة التَّحرير الوطنيّ النَّاصعة، وليس برطانة الواقعيَّة السِّياسيَّة المزعومة؛ تلك الواقعيَّة الَّتي ثبت أنَّها في الحقيقة لا علاقة لها بالواقع..
ولقد ثبت، بالمقابل، وكما يقولُ الخطُّ السِّياسيّ الحاليّ لحزبنا، أنَّ المقاومةَ هي الحلُّ، وهي الطَّريقُ الأمثلُ، لتحقيق المطالب العادلة للشَّعب الفلسطينيّ وللشُّعوب العربيَّة كُلِّها..
المقاومةُ وليس المشاريعَ والخططَ الاستسلاميَّةَ.. تلك المشاريع والخطط الَّتي لم توصل إلَّا إلى المزيد من الاستسلام والهوان، ولم ينتج عنها أيُّ حلٍّ..
تمرُّ الذِّكرى القاتمة، اليوم، وقد راحت القضيَّةُ الفلسطينيَّةُ تسطعُ في العالم كُلِّه بأنوار المقاومة الباسلة.. أنوار البطولة والفداء الَّتي أشعلتها عمليَّةُ السَّابعِ مِنْ تشرين الأوَّل (أُكتوبر) البطوليَّة..
الآن، أصبحتْ القضيَّةُ الفلسطينيَّةُ – كما تستحقُّ فعلاً – في موقع الصّدارةِ مِنْ وجدان شعوب العالم كُلِّها، كأكثر قضايا العالم عدالةً ومشروعيَّةً..
والآن، أصبحتْ صورةُ الكيان الصّهيونيّ، لدى جميع البشر الأسوياء أنقياء الضَّمير – كما هي حقَّاً، وكما كان يجب أنْ تكون دائماً – أكثرَ الصّور قُبحاً وفظاعةً؛ بوصفه كياناً استعماريَّاً استيطانيَّاً غاصباً وإحلاليَّاً وعنصريَّاً ونازيَّاً، لا يملك أيَّ حقٍّ في الوجود..
الآن، صرنا نرى متظاهرين متضامنين مع الشَّعب الفلسطينيّ، في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك في الولايات المتَّحدة ودول الغرب الأخرى، يهتفون لفلسطين حُرَّة من البحر إلى النَّهر..
الآن، أخذ التَّاريخُ ينتظمُ في مسارِه العادل، مسارِه الصَّحيح الإنسانيّ؛ وسيتراجع، حتماً، منذ الآن، ويمضي إلى أفول، مسارُ الظّلم والجور والعسف والإجرام؛ ومسارُ الذُّلِّ والهوان واستمراء طعم الهزيمة والاستسلام.
تمرُّ ذكرى النَّكبة، اليوم، ويمرُّ معها شريطٌ طويلٌ مِنْ صور الإجرام الصّهيونيّ النَّازي المقتَرَفِ على مدى أكثرِ مِنْ ستَّةٍ وسبعين عاماً مضت..
يمرُّ هذا الشَّريط بينما نحن نتابع، يوميَّاً، مشاهدَ «حيَّةً» أكثرَ عنفاً وأكثرَ إجراماً تُقتَرفُ بوساطة آلة الإجرام الصّهيونيّ الجهنَّميَّة مع سبق الإصرار والتَّرصُّد وبصورةٍ غيرِ مسبوقة..
وفي الوقتِ نفسه، وفي المقابل، نرى، يوميَّاً، مشاهدَ نادرةَ المثال للعزَّة والكرامة؛ مشاهدَ عظيمةً للصّمود والبطولة، تُسَطَّرُ على أرض غزَّة؛ ونرى بشائرَ النَّصر، وتلوح لنا راياتُه الخفَّاقةُ.
وإنَّ النَّصرَ لصبرُ ساعة..
إنَّ النَّصرَ ليأتي مع الثَّبات والمقاومة..
عاشت المقاومة،
والمجدُ والخلود للشُّهداء الأبرار.
الحزب الشُّيوعيّ الأردنيّ
عمَّان 15 أيَّار 2024