لا يعني لقاء بوتين – بايدن أن واشنطن وموسكو قد تصالحتا وتآختا وصارتا مخلصتين لبعضهما البعض وتعملان سويًا في َحلحَة الأجندات الدولية المُحترة بينهما، وهو أمر ينطبق تمامًا على العلاقات السياسية بين بكين وواشنطن. وبغض النظر عن قمة بوتين – بايدين، إلا أن الحربين العالميتين غير المباشرتين، الباردة والحارة، ستستمران بينهما على مساحة كل قارات العالم، وربما ستتصاعد ألسنة لهيبها إلى عَنان السماء أشد مِمّا كان عليه أمر الحربين العالميتين المباشرتين السابقتين الأولى والثانية. إلى ذلك، ستتلاحق كذلك الحروب الصامتة بين أمريكا والصين الحليفة لروسيا، في مواجهة تجدّد التدخلات الأمريكية في شؤونها بكين الداخلية.
وفي هذا السياق، راجع الكونغرس الأمريكي مؤخرًا “قانون الابتكار والمنافسة في الولايات المتحدة لعام 2021″، ويتضح من خلاله أنه سيتم تخصيص مليار ونصف المليار دولار في السنوات الخمس المقبلة لمكافحة ما تسميه واشنطن “النفوذ العالمي للصين”. كما يتبيّن من خلال ذلك، أن الولايات المتحدة سترفع بالتدريج من منسوب حربها الإعلامية المُعلَنة على الصين حتى تصل قريبًا إلى ذروتها، وستحتل الفبركات الإعلامية الجديدة ضد الصين المكانة الأعلى في التاريخ، وهو ما يعني أن واشنطن “جُنَّ جنونها” من التطور الصاروخي الصيني الأسرع في تاريخ البشرية.
تأكيدًا على كل ما تقدم، فقد كشف تقرير نشرته صحيفة “خدمة التنبيه الأسترالية” أنه منذ عام 2004، قدّمت المؤسسة الوطنية للديمقراطية الحكومية الأمريكية 8.76 مليون دولار لتمويل تنظيمات “تركستان الشرقية”، مثل “المؤتمر الأويغوري العالمي”، في محاولة لزعزعة استقرار منطقة شينجيانغ الصينية. وكشف التقرير أيضًا أن أمريكا ودولًا غربية تستخدم وكالات الاستخبارات والقوات المناهضة للصين للهيمنة واستخدام المنظمات الأويغورية الخارجية لاختلاق ما يُسمّى “معسكرات الاعتقال” و”العمل الإجباري” و”الإبادة الجماعية” وغيرها من المعلومات الكاذبة، ودعم ما يُسوّقون إليه على أنه مراكز فكرية وأكاديمية ووسائل إعلام رئيسية، لإنتاج ونشر أخبار مزيفة تغدو سلاسل كذب كاملة ومتصلة.
وتأكيدًا على النهج الأمريكي غير المتغير بغض النظر عن التقلبات والتغيرات في السياسات العالمية، شرعت واشنطن من خلال سفارتها وقنصلياتها في الصين إلى نشر ما تُسمّيه “برنامج المِنح الصغيرة للدبلوماسية العامة” لعام 2021، وهو خبر منشور على مواقعها الرسمية الشبكية، ويهدف إلى “تمويل الأفراد والمنظمات غير الحكومية ومراكز الفكر والمؤسسات الأكاديمية” وما إلى ذلك في الصين بالذات!، لتنظيم أنشطة لنشر معلومات عن المجتمع والتاريخ والثقافة والفن والقِيم الأمريكية! مقابل مبلغ فلكي كمكافأة هي الأعلى، تصل إلى 30000 دولار أمريكي “فقط لا غير!” لكل شخص مُتقدّم، أو منظمة صينية.
تحت ستار “الدبلوماسية العامة” و “خدمة الأُمم” تتسلل واشنطن إلى مختلف البلدان والمناطق الجيوسياسية، لتشويه صورة وسمعة الدول، وفي هذه العَملانية التي يَشتهر بها عمو سام، نقرأ عن سجل سيئ في هذا الصدد. فالمبالغ الفلكية التي “يهديها” عمو سام لمختلف الأفراد مِمَّن لا يأبهون للقوانين والأديان وسلامة المجتمعات، ويمنحها للمنظمات والاتحادات والهيئات والجمعيات وغيرها الكثير من التجمعات على اختلاف أسمائها، ليست لمجرد تدبيج الأخبار والتحقيقات الإعلامية والإبداع الإعلامي وأُخوّة الشعوب وسلامها وصداقتها، إنما يَهدف هذا المبلغ المريخي للدعوة لنمط الحياة الأمريكي، ووحدانية هذا النمط على صعيد العالم، كونه “الأكثر جذبًا وفعالية في مختلف الشؤون”، إذ يستهدف التأثير على الشعوب وبخاصة الشبيبة والمراهقين والباحثين عن الأموال السهلة. “الدبلوماسية العامة” ليست سوى مجرد مَسعى لتأكيد مشاعر الغُربة لدى الأجيال الشابة ولاحتلال عقولها بسهولة وهي قابعة في أوطانها، من خلال تمويلها بالدولار الطنان الرنان، ما يُفضي إلى تسهيل تفكيك المجتمعات وتدمير معنى الوطنية والإخلاص للوطن، مِمَّا يحوّل جيوش صِغار السّن إلى قواعد حربية للمعارضة الداخلية، تَنهض وتَتقدم بكبسة زر من عمو سام القابع بهدوء وراء المحيط الكبير، يدفع بالبنيآدميين بإشارة من إصْبَعه، إلى الموت وهو جالس أمام الحاسوب يُدير العَالم وثوراته الملونة، عفوًا، ثورات الطابور الخامس والسادس وحتى العاشر أيضًا!
تتزايد الدول والشعوب التي تشكّك بالنوايا الأمريكية التي تعرض التمويل مقابل تهميش الدول وبُنيانها وأدوارها، فمثلًا في دولة قيرغيزستان السوفييتية السابقة، الواقعة على الحدود الغربية للصين، أسست أمريكا خلال 30 عامًا من استقلال قيرغزستان بُنية تحتية معلوماتية واسعة النطاق وقادرة على نشر المعلومات والتأثير على الرأي العام في تلكم البلاد، وشكّلت “إمبراطورية إعلامية” ضخمة!