عوامل كثيرة جعلت من “طقوس التذكر المحرم” مجموعة قصصية متميزة، ومن هذه العوامل اللغة الأنيقة التي كتبت بها المجموعة، فكانت الجمل سلسة والمفردات سهلة ولكن بعيدة عن البساطة المفرطة، وبليغة ولكن بعيدة عن التقعير اللغوي. لم تكن لغة القص شعرية مثقلة بالتلغيز والترميز وبغريب الألفاظ، ولم تكن عصيّة على الفهم والتأويل بل كانت شاعرية قريبة من القلب.
خلت القصص من التكلّف والتصنع، وامتازت بصدق العاطفة، فالقاص يروي تلك الذكريات التي علقت في ذاكرته ووجدانه، فيصل السرد مباشرة إلى قلب القارئ ليستثير مشاعره ويحرك عواطفه.
اتسمت كثير من قصص المجموعة بالجرأة لتطرقها إلى مواضيع سياسية مسكوت عنها: كحرب النكسة عام (1967)، وانسحاب الجنود من المعركة، وهذا ما طرحته قصة “طقوس التذكر المحرم”، والأحداث الدامية في مدينة حماة عام (1982) قدمتها قصة “نبض”، واغتيال ناجي العلي على يد إحدى الفصائل الفلسطينية (1987) التي عرضتها قصة “تسويات المتعبين”، ومراجعة مكتب مخابرات إحدى الدول في قصة “انتظار أمام غرفة (507)”. على الرغم من جرأة الطرح إلا أن السرد لم يكن مباشرا لأنّ القاص اعتمد أسلوب التلميح مبتعدا على التقرير والتصريح. وكما هو معروف فإن التلميح هو أحد العناصر التي تجعل من نص ما نصا أدبيا.
ومن العناصر التي ميزت هذه المجموعة أيضا الثيمات نادرة التي تبناها القاص، ففي قصة “قطعة نقد” سرد المجالي سيرة قطعة نقد أردنية من فئة “خمس قروش” أو “الشلن”، وكانت البداية في ذلك الزمن الجميل الذي تمتع به “الشلن” بقوة شرائية كبيرة، ثم تدهورت قيمته مع مرور الزمن حتى وصلت إلى الحضيض. وهذا موضوع اقتصادي بجدارة، إنه مشكلة التضخم التي تعاني منها العديد من الدول والتي تتجلى بفقدان العملة لقوتها الشرائية مع مرور الوقت. فـ”الشلن” الذي كان يشتري “شوال البرتقال يافاوي أبو خط أحمر” (المجالي 19) في خمسينيات القرن المنصرم، يعجز اليوم عن شراء رغيف من الخبز! من النادر تطرق الأعمال الأدبية إلى المواضيع الاقتصادية إن تم استثناء موضوع الفقر والطبقة العاملة. ومن الثيمات النادرة أيضا ما قدمه نص “الرماد” والتي تدور حول المعاني التي تحملها مفردة: رماد، بحسب الثقافة العامة وبحسب المعاني الخاصة بالسارد. يبدو نص “الرماد” وكأنه صفحة مقطوعة من أحد القواميس اللغوية التي تبحث في معاني الكلمات.
على الرغم من تعدد ثيمات هذه المجموعة القصصية بين ما هو تقليدي وما هو نادر، فإنه من الواضح جدا أن ثيمة “الألم” هي الرابط المشترك الأوثق الذي يجمع بين قصص المجموعة. هذا الألم الذي يُخفي خلفه أمل القاص بالخروج من دائرة الضيق إلى رِحاب الفَرَج.
ضمت “طقوس التذكر المحرم” بين جنباتها أجناس قصصية متنوعة، فهناك قصة الحب التي طرحتها: “قمر ليس لنا (1)”، “قمر ليس لنا (2)”، “مرافيء بعيدة”، “الطريدة”، “جنوبا”، و”محطة”. وهناك أيضا القصة الرسالة، وقصة الرحلات وخير مثال عليهما قصة “رسالة إلى زيد” وهي رسالة من القاص إلى ابنه زيد يحدثه فيها عن رحلاته المتنوعة، وعن تجربته مع الطعام والشراب في تلك الرحلات. ومن اسم مجموعة المجالي القصصية”طقوس التذكر المحرم ذاكرة المكان…قصص وحكايا” نكتشف بأننا أمام باقة من قصص المذكرات، فالقاص يتذكر قصص ومواقف حدثت في الماضي، ثم يعيد صياغتها على شكل قصص قصيرة. تجدر الإشارة إلى أن أدب المذكرات يختلف عن أدب اليوميات والذي تكتب فيه أحداث كل يوم بيومه.
انتمت قصص “طقوس التذكر المحرم” إلى مدارس أدبية متنوعة. بالإضافة إلى القصة القصيرة التقليدية، نلاحظ وجود القصة القصيرة الحداثية التي تغيب عنها عناصر القصة الرئيسة مثل: المكان، والزمان، اسماء الأشخاص، الحبكة، الذروة. وخير مثال على القصة الحداثية “انتظار أمام غرفة (507)” فالمكان غير معروف، والزمان مجهول، المتهم نكرة، لا يُعرف اسمه، ولا سنه، ولا طبيعة عمله،…إلخ، والانتظار، الذي هو موضوع القصة، لا تُعرف أسبابه! وتنتمي مجموعة من القصص إلى المدرسة الرومانسية التي تتطرق إلى دواخل الكاتب ووجدانه ومشاعره، وإلى جمال الطبيعة من حوله، وإلى قيمه الروحية العليا، وهذا كله تم عرضه في قصص مثل: “الحلم الهارب”، “قمر ليس لنا (1)”، “قمر ليس لنا (2)”، “مرافيء بعيدة”، “الطريدة”، “جنوبا “، و”محطة”. وللمدرسة الواقعية حضور جلي في هذه المجموعة القصصية، فهناك خمس قصص تصور واقع مدينة الزرقاء الأردنية: “الزرقاء/ الشارع الأول”، “الزرقاء/ الشوارع الضيقة”، “الزرقاء السكة”، الزرقاء/ الواحة”، “الزرقاء/ المجمع/ الانتظار الأسطوري”. وللمدرسة الرمزية أيضا حضورها المتميز في قصة “جثة”، حيث يجتمع عدد من الأشخاص يمدون أيديهم “نحو الفكرة المسجاة، كل يمد مبضعه ويغرسه في اللحم الطري…”(114). وتنتمي قصة “الطريدة” أيضا إلى المدرسة الرمزية، فهي تسرد قصة غزال مُطارد: فتاة جميلة يطاردها الجميع. وهذا التنوع محمود لأنه يجعل المجموعة القصصية أكثر متعة فيخرجها من رتابة اللون الواحد إلى ألوان الطيف الممتعة.
بالإضافة إلى ما ذكر سابقا، يلحظ المتمعّن في القصص أن الكاتب قد قدم نوعا خاصا من القص، عن قصد أو عن غير قصد. نوع من السرد يراوح على حدود الأجناس الأدبية، فيحتار القارئ والناقد في التجنيس! فعناصر القص موجودة ولكن القصة تحمل ملامح جنس أدبي آخر. في قصة “الزرقاء/ السكة” يشعر القارئ أنه أمام مقالة أكثر من أي شيء آخر، على الرغم من وجود شخصيتان: شقيقان تبدو الأحداث وكأنها تدور حولهما، إلا أن وجودهما يبدو مقحما أكثر من كونه وجود أصيل. وفي “قمر ليس لنا (1)” و”قمر ليس لنا (2)” يلاحظ بالنظر بأنهما أقصوصتان وليستا قصتين قصيرتين. والأقصوصة أقصر من القصة القصيرة. لم يتجاوز عدد كلمات كل أقصوصة منهما (120) كلمة، مع ذلك يقف القارئ أمام هاتين الأقصوصتين متسائلا أيضا إن كانتا حقا أقصوصتين أم قصتين قصيرتين جدا، والقصة القصيرة جدا جنس أدبي آخر يعتمد على الحكائية والمفارقة والتكثيف الشديد، وفي هاتين القصتين من هذا ومن ذاك! أما في نص “الرماد” فالوضع مختلف تماما، لأن النص يفتقر إلى عناصر القص! فلا مكان، ولا زمان، ولا شخصيات، ولا أحداث، ومع غياب القصصية أو السردية أو الحكائية تغيب القصة لا محالة! كل ما حوته “الرماد” كان عبارة عن أفكار تتداعى حول المفردة: رماد، ولهذا فـالنص “الرماد” ليس بقصة ولكنه خاطرة بكل تأكيد. أما في “رسالة إلى زيد” فيقف هذا النص في حدود أدب الرسائل أو المراسلات ولا يتخطاه إلى القصة، فما هو إلا مجموعة من الذكريات لأحداث غير مترابطة في أماكن مختلفة وأزمنة مختلفة، لا تتصاعد معظم أحداث النص ولا تصل إلى ذروة ولا تصل بالتالي إلى حل، ولا يربط بينها إلا تجربة الطعام والشراب التي تحدث عنها المجالي في رسالته إلى ولده زيد، بالرغم من ذلك، سُردت تجربة تناول (البرياني)، في مطعم هندي في العربية السعودية، بطريقة أقرب إلى الأقصوصة. هذا التجريب القصصي سواء كان عن قصد أو عن غير قصد، سواء كان موفقا أو غير موفق، فهو تجريب محمود ومطلوب، لأن المبدع لا يكتفي بالسير على خطى من سبقه، ولكنه في بحث دائم ودؤوب عن كل جديد.
أما بالنسبة للتذكر عند أسامة المجالي فهو متعدد الأشكال: تذكر شخصي، وتذكر غيريّ، وذكريات ارتبطت بمبان معينة، وأحداث جرت في إحدى الحارات، وذكريات ارتبطت بمدن بعينها، وأخرى بدول، ذكريات وطنية، وأخرى قومية، وإسلامية، وإنسانية عالمية. أما الأسباب التي جعلت المجالي يتذكر فهي عديدة ومتنوعة، منها: استرجاع اللحظات السعيدة، وهذا ما نلحظه في “رسالة إلى زيد” حيث يحدث القاص ولده عن تجربته مع الأطباق العربية والعالمية، وللذكريات الجميلة نصيب في قصة “الحلم الهارب” حيث يتذكر القاص أصدقاءه الأتراك ومدينة إسطنبول. تذكر المجالي أيضا في محاولة منه لاستكشاف الذات القديمة، لاستكشاف تلك الآلام التي كان يعاني منها، وتلك الآمال التي كان يرجو أن تتحقق ذات يوم، وتذكر أيضا لمشاركة آلامه بغية الاستشفاء النفسي. ويمكن تتبع الاستكشاف للنفس والاستشفاء في القصص الآتية: “قمر ليس لنا (1)” و “قمر ليس لنا(2)”، و”مرافيء بعيدة”، “الطريدة”، “جنوبا”، “محطة”. ولأن التاريخ يكرر نفسه فقد كان الاستذكار نوعا من أنواع التنبؤ بالمستقبل، ففي قصة “بكاء” استذكر القاص قطاع غزة الفلسطيني وعذاباته، هذا الماضي الذي عاد حادا كسكين، الذي عاد ليتكرر من جديد بدمه، بناره، ورماده، ودخانه بعد معركة طوفان الأقصى التي ما زالت تعصف بالقطاع حتى هذه اللحظة. كما تذكر القاص في “نبض” مدينة حماة، والموت والدمار والخراب الذي عاد من جديد ليضرب كل سورية بعد ربيع عربي كان أشبه بخريف جهنمي. ومن أسباب التذكر أيضا تصحيح التاريخ، فقدّم القاص نسخة مغايرة عن النسخ الرسمية لكثير من الأحداث، السياسية منها على وجه الخصوص، وهذا ما يُلحظ في “طقوس التذكر المحرم”، “نبض”، “بكاء”، فرانكنشتاين عراقي”. تذكر المجالي أيضا لأنه كان يبحث عن الجمال، والبحث عن الجميل في هذه الحياة لا يتم إلا بعد معاينة القباحة والدمامة فالأشياء لا تُعرف إلا بضدها. كثيرة هي النصوص التي سلطت الضوء على بشاعة الحياة حتى تستفزنا لتخيل ما هو جميل، وهذا ما نراه في “الياسمين والإسمنت”، و”فرانكشتاين عراقي”، و”صرخة”. بالإضافة إلى كل ذلك، تذكر المجالي الكثير من الأحداث الشخصية والمحلية والعربية والعالمية لأخذ الدروس والعبر، منعا لتكرارها في الحاضر والمستقبل.
“طقوس التذكر المحرم: ذاكرة المكان…قصص وحكايا” مجموعة قصصية سيطرت عليها الذكريات المسكوت عنها والمرتبطة بالأماكن التي مر منها أو أقام فيها الدكتور أسامة أمين المجالي.
يذكر أن الدكتور أسامة أمين المجالي خريج كلية الطب في جامعة إسطنبول، تخصص في طب الأطفال في الأردن. وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين، وعضو فاعل في مبادرة نون للكتاب. عمل كاتبا حرا في عدة صحف، وأسّس مع مجموعة من الأدباء والشعراء “ملتقى بيت عمّان” في تسعينيات القرن الماضي. عمل رئيس تحرير مجلة “السنابل” الأدبية التي استمرت في الصدور حتى عام (1995)، له كتابان منشوران: “طقوس التذكر المحرم: ذاكرة المكان…قصص وحكايا” مجموعة قصصية صادرة عن دار أزمنة (2021)، ومختارات شعرية مترجمة من اللغة التركية إلى اللغة العربية تحمل اسم “يهديني مدينة يهديني إسطنبول” صدرت عن دار أزمنة (2021). كما له ترجمة عربية لرواية تركية تحمل اسم “مرَبِّي الورد” للروائي التركي (راسم أوزدان أوران)، وهي قيد الإصدار.