إنّ نحت مصطلح “رواية الصحراء” يتنازع بين طرفين مختلفين في الرؤية والمفهوم هما الرواية، فالرواية التي هي عمل ذاتي وفنّي وتخييلي يتميز عن الكتابة الاجتماعية التي تدعي الموضوعية وتعمل على تفسير الواقع الاجتماعي، من هنا كان وما زال الجدل حول المصطلح والإشكالي وقدرته على التعبير عن واقع الرواية المحكوم بإشكاليات المصطلح.
إلّا أنّ الروائي سامي سعد في روايته “السراديب” الصادرة عن دار ميريت- ٢٠١٥ – القاهرة، ركّز في جانب هام وأساسي منها في مستوى العلاقة مع الزمن بوصفه الفضاء الحيوي لأي نشاط إنساني كان أو ما سيكون.
ويعد مصطلح التخييل الصحراوي محاولة لتفكيك ثنائية الرواية والصحراء من خلال دمجها في هوية سردية جديدة، تعمل على إزاحة مقدار الخضوع الذي يمكن للتخييل السردي أن يعاني منه تحت ضغط سلطة المرجعيات لإشكاليات المصطلح.
إنّ العلاقة بين الرواية والصحراء والواقع وما يحدث من تداخل بينها تكشف عن أنّ الرواية الصحراوية تعدّ بشكل من الأشكال رواية اجتماعية مرجعيتها زمن صحراوي وهو ما نجده في المقطع السردي التالي: “يتعب ويشقى، يزرع ويحصد، يحمي الأرض والعرض، لكن البنت ما لها غير دارها، وحقّها يصل إليها يا باشا ص٣٣”.
يختار سامى سعد من الصحراء ما يجده جديرا بإعادة القراءة والتمحيص من خلال ما يطرحه على الوعي الروائي من أسئلة معلقة في فضاء الكتابة عن الصحراء، أو بسبب ما يجده جديرا بالاستعادة نظرا لما يحمله من دلالات تنطبق على الواقع المعاصر: “سجلوا اسمه في كشوف المقبولين، أعطوه مهمّات كثيرة، حول أخضر طويل، حذاء طويل وثقيل وأسود، والأهم من هذا كلّه، بارودة طويلة، قالوا له: هذه شرفك، وحياتك، احفظها تحفظك، فاهم؟ ص٦٨”.
لذا تتميّز وظيفة الكاتب الروائي بسبب اختلاف الدوافع والرؤية إلى الصحراء إضافة إلى الخصوصية الفنية والتخييل الذي يحكم هذه الكتابة ويجرِّدها من موضوعيتها. لكن هذا الاختلاف في الرؤية والمفهوم لم يمنع الروائي أن ينافس المؤرخ في وظيفته عندما يملأ الفجوات المتروكة في التاريخ: “هذه النفس الكبيرة الواسعة، أين نبتت بالضبط؟ يقولون: علمته الحاجة أنْ يكتفي بنفسه، درّبته الصحراء وقانونها الفظ أنْ يكون صلباً صبوراً، استخلص من سبره لأغوار الحياة، وحكاياتها أنّ الرزق مقسوم ولا حيلة لأحد فيه ص٩٣”.
تتّسع حدود العلاقة الإشكالية بين الرواية والصحراء، كما تتّسع معها مشكلة المصطلح الدال الذي يمكن أنْ يحيل على هذا التنوّع والاختلاف في التجارب، خاصّة أنّ هذه الرواية ما زالت تحاول التجريب والبحث عن هوية خاصّة بها. إنّ الجدل المستمر حول المصطلح، ما إلّا لأزمة واقع معاصر، تجاوز الكاتب الروائي سعد، بتقديم مشهد درامي روائي تصويري، ليس من أجل كشف الحال، بقدر ما هو تجاوز حالة الجدل: “هذا الشريط لن ينجب بنتاً بقدم ناعمة أو كفاً طرية، أو وجهاً لم تفعل به الشمس الأعاجيب، والجميلة منهم، ليست من صنع الأهل، أو هي حنكة صاحبتها، بل هي مجرد وهبة من الله ص١٠١”.
رواية الصحراء فعل مضاد، يكتبه “المراجعون الجدد” المنتشرون في أصقاع الارض، ممّن يودّون أنْ يسردوا رواياتهم التي نبذها التاريخ الرسمي التي حفرها التاريخ الرسمي، والتي لم يعترف بها أصلاً التاريخ الرسمي، فحينما يكتب الروائي عن الصحراء، كلّ هذه المفاصل تكون حاضرة في وعيه، لذا أمام هذه الصورة السوداء، التي لا تريد تبييض صورة الصحراء، وتصويرها بصورة نمطية، يقف الروائي أمام معضلة كبيرة، كيف يخلق فضاءً اجتماعياً يدحض الرواية الرسمية؟ فليس عبثاً اضطراب الفكر التاريخي لدى القبائل العربية قبل الخروج الإسلامي الكبير إلى بقايا الإمبراطوريتين “الفارسية” والتي قضوا عليها قضاء مبرماً بحيث لم يتركوا للفرس إلّا مضخّ الحقد على مدمِّر دولتهم أي إمبراطوريتهم، وتسبّب في تفكيكها لقرون طويلة، والإمبراطورية الرومانية وطردها خارج العالم العربي، والتورية لهذه الأحداث التاريخية التي لعبت صحراء القبائل دورًا جوهرياً وهاماً، لتأتي رواية الصحراء من جديد، لتعزيز مكانتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، من خلال سرد يتأقلم مع تطورات العصر، وهذه ليست حالة طارئة، بل متجدّدة، عندما خرج العرب من جزيرتهم العربية، تأقلموا مع الواقع الجديد آنذاك، فالصحراء كانت دائمة حاضنة هذه التغيّرات التاريخية في عالمنا العربي، فالرواية الصحراوية هي في جوهرها تروي سرد شخصياتها على شكل “نحن”: “يا خسارة، يتساوى الجميع على مائدة الفرح الوليدة، ويظلّ سؤال خبيث لا يعرفون الإفصاح عنه: كنا إذن واكلي الروكي سواء بسواء؟ فاتت علينا إذن مرقة الدجاج، التفاح الأمريكاني الأحمر، الليرات الوفيرة، سجائر التايم البيضاء، رحلات إيجل إلى أشهر المناطق السياحية ص ١٦٧”.
هنا تتداخل العوامل الاجتماعية والسلوك الاقتصادي، وأثره على البنية الاجتماعية الصحراوية، التي تتحدّث شكلاً بهلوانياً، يفقد العقول، إلى حين أو تستمر حالة عرض السرك: “الزين لا يجد التين الأسمر الذي كان قوته ومشتهاه فيصاب بالكآبة والصمت، سالم الحالم يعود فلا يجد حتّى الرائحة التي تجذبه من أقاصي الأرض، يغادر كالمجنون مرّة أخرى، ويوصي أخاه السلمان: حين يصلك جثماني ذات يوم، ضعني قرب رأس أمّك يا سلمان ص٢٠٧”.
ويمكن التأكيد هنا أنّ الصحراء كالرواية، كلاهما في حرب الحياة نفسها، وفي صراع الوجود والاستمرار، وكلاهما في مواجهة تحدٍّ جديد مختلف، تحدّي زمن عنيف، فكتب سامى سعد روايته “السراديب” للخروج من هذا التيه٠