سليم النّجّار
لحظةَ قرأت العنوان الذي كتبته، ظننت لوهلة أولى أنّني أمام عنوان يتّسع لسعادات شتّى، يُشعّ أملًا وحبورًا، يفيض ازهارًا، متبنيا في هذا من يقرأون العنوان ما هو إلّا عتبة للنص، توحى ولو من بعيد بما داخل دهاليز النص. غير أنّ النص في هذا اليوم – 29 /8 / 2024 جاء مغايراً للعنوان، إن لم يكن عكسه تماما، بمعنى كنّا مواطنين لا حلية لنا، إلا الانصياع لرغبات الروتين.
ذهبنا صباحاً إلى لجبيهة- عمّان لدائرة الأراضي لتسجيل الرقم الوطني “للقوشان” و”مخطط الأراضي” التي تريدهما سهير التل، من أجل بيع شقتها، وأنا أكتب هذه الكلمات نسيت مكان الشّقّة ورقم الحوض، ورقم القطعة، وكلّ لوازم الاستبيان الذي قمت بتعبأته، كان هذا الاستبيان شديد الإيلام- تكابد فيه لملأ الفراغات، ومن أثار هذه المكابدة ذهبت لشباك رقم “٨”، كما أرشدني أحد المراجعين، بعد أن أخبرته بما أريد٠
طلبت من والدتي – الآن بعد تعبئة ما هو المطلوب- تبدّل الحال وأصبحت أو الأصح عاد لساني يردّد مفردة والداتي، أنْ تجلس على الكرسي للاستراحة، وأنا ذهبت كأسد غير جسور على شباك 8 وجدت خلف الشّباك موظفة- شيء طبيعي: أجد موظفة، خاصّة ونحن في زمن الحريّات، لكن أيّ حريّات، هذا متروك للقارئ وليس لي، لأنّي منذ زمن امتهنت مهنة العقل والتروّي، وهذا الوصف في قاموس أهل اليسار جبن وتخلٍ عن المبادئ، أمّا أهل اليمين- لا تعليق فالمرحلة تتطلّب الهدوء والسكينة.
ما زلت أنظر إلى والدتي وهي في حالة غضب شديد من المحامي الذي وكّتلته، والذي من المفترض أنْ يقوم بهذه المهمة، لكن هذا ليس مهمّا، وإدخال القارئ في زوايا الشطارة في بلدنا، التي تُمارس من قِبل أصحاب المهن.
يظهر جسد الموظفة في المقدمة، رغم الحاجز الثوري المسمى “الزجاج” لم أكترث، معلناً اختفاء صاحبته خلف النقاب، انتظرت الدور، شاهدت وردة حمراء أمامها استبشرت خيرًا، رغم هذا التناقض الصارخ، بين الوردة الحمراء والنقاب، فلون الأحمر ملكية خاصّة للشيوعيين، والنقاب من تراثنا غير المُعرّف، والمختلَف علية بحدة لدرجة التناحر، ليس مهمّا.
ومن حقل مفردات اليوم – الساعة الآن 12 ظهرًا جاء دوري، بهدوء، أبلغتني صاحبة النقاب أن أجع بعد ساعة.
امتثلت لطلبها وعدت إلى والدتي وأبلغتها بما سمعت، ازدادت غضبا، حاولتُ التخفيف عنها؛ وبدأت أذكر لها إعجابي بما رأيت، موظّفة جميلة، نظرت لي، وكأنّ حال نصّها تريد لعني، هذا وقته!
شعرت أنّي أقرأ نصّا لوالدتي (من قال اننا دعاء مثقلا بالأوجاع والآلام) ومن قرأ شعرًا على الحدود، ورسم الغيمة، ونام على التراب، ومن عَبَرَ وإلى اليوم لم يصل، لكن وصلت معها إلى طلب أنْ نخرج خارج الدائرة ونمارس غواية التدخين، ولن أذكر ما دار بيننا من أحاديث خوفاً أن أتعرض لقانون الجرائم الإلكترونية، لكن سأذكر لغة مطواعة سلسة لا تُعقد المعنى بل تحتفظ بنضارته٠
وبعد، انتهيت مدّة الساعة وعدت طائرًا إلى الشباك رقم “8” ووالدتي تبحث عن كرسي، وجدت ضالتها، أمّا أنا وجدت عينيها اللتان سحرتاني وأبلغتها بأنّي قدّمت المعاملة قبل ساعة، ودون أنْ أنتظر منها أيّ سؤال قلتُ لها المعاملة باسم سهير سلطي صالح التل، وبدأتْ البحث، لم تجد المعاملة، وحاولت جاهدة البحث- عبثا، تناولتُ من بنطال الجينز الذي أرتديه البطاقة المدنية لوالدتي، تناولتها -عبثا- طلبت منّي اسم القطعة واسما واسما، أسعفتني ذاكرتي الغبية، الاتصال بالمحامي، لمعرفة ما طلبت منّي المنقَّبة، ردّ عليّ المحامي الذي نسيت اسمه وأنا أكتب الآن، وأخبرته بما أريد، وأرسلت عبر أثير ذكورتي رقم القطعة ورقما ورقما، فجأة وجدت والداتي خلفي، بعد ذلك أخبرتها أنّ المعاملة ضاعت، نظرت إليّ بحزن شديد، وعدت إليها، نعم عُدت إليها، فجأة وجدت والدتي خلفي، وسمعتني أكرّر اسمها، قالت حلا مكاحلة، سمعتها المنقبة وبسرعة تناولت المعاملة، وقالت الله يسامحك المعاملة جاهزة، للحظة توقّف البثّ عندي، للحظة مبتغاة، وحاورت نفسي: الله يسامحني أنا تعاملت معك كذكر- وأنت عاملتني كمراجع.
مجنون أتركُها، مع نصف سيحارة، شيء غرِ قابلٍ للسَّحق قبل أنْ امسك يد والدتي ومساعدتها النزول على الدرج، ما زالت لوعة النقاب تحرق قلبي.
غابت المتعة والإحساس بانتظار التاكسي والعودة إلى بيت والدتي في الشميساني.
كتبت بهواجس ومشقّة الشعور، وبطريقة التفكير غير المبرمج، وقد يجد القارئ جملا مقطوعة في سياق متصل أو غير متصل فالأمر سيان عندي…
ألم أقل سهير التل بوصفها والدتي، كالأفكار التي تدخل فجأة بنسق أفكار مرتبة، لكنّها لغة تحتفظ بنضارتها٠
الكلمات تكاد تقفز من الصفحة فيشعر القارئ أنّ هناك بقية للحكاية- ربما.