التاريخ والمتخيَّل في رواية “ملائك نصيبين” لـ د. أحمد خالد مصطفى

سليم. النّجّار

ما يميّز كلَّ نتاج روائيّ ديمومتُه، جرّاء الحاجة الدائمة إلى مجموعات القيم والمعاني والرموز التي تنطوي عليها، باعتبارها مجالات خلاّقة تلّبي انفعالاتها لتؤلِّف جزءاً من خبراتنا الحياتية والجمالية والوجدانية، حيث تقدِّم متاحف للسرد الروائيّ وصور مجازية عن شكل هذه العلاقة وطبيعة التواصل فيها. حينما تحتفظ الرواية بوصفها رمزاً ذا وجود حسيّ وقيمي. وإنْ كانت الرواية في أحد تجلّياتها متحف متنقل في أروقة التاريخ، فلا بد من القول إنّ الخلفيةَ لهذه المتاحف المكانُ، الذي يؤسِّس للصورة الدرامية لحركة الإنسان، أيّ أنّ التاريخ بهذا المعنى يبني علاقة فوتوغرافية ببن الإنسان والرؤية للتاريخ.
لذا فالتفرّد كأثر روائي، هو الصفة التي كتبها د. أحمد خالد مصطفى في روايته “ملائك نصيبين” الصادرة عن عصير الكتب- 2019، والمكان الذي يحتويه، أمكنة تكتسب ذاكرة تضاهي ذاكرة الإنسان الموجودة في فضاءاتها، حيث ثمّة علاقات يتبادلانها بينهما، حين يتعهد المكان بخلق تبعات اعتبارية راسخة لما هو مسرود، وتقديمه للمتلقّي بكونه فعلاً من أفعال تذوق المعرفة، فيما التاريخ يوحي بقلق حضوره مجسداً جرّاء وجوده بين فضاءات الرواية رمزية دائمة. هكذا هي الأمكنة، تنتج الرؤية وتبقيها، وتكلّفها الانخراط في الوجود.
وظّف الروائي د. أحمد خالد مصطفى في روايته “ملائك نصيبين” فكرة المرسم الذي صَوّر شخصياته الروائية في الرواية، يعتري المرسم الفني، ما يجعله بعيداً عن أي زمن يأفل. ما الذي يجعل من لوحة شاخصة رغم مئات السنين تحتفظ بذات الدهشة، وبنفس القدر من الاهتمام بالبحث عن لحظة تكتشف فيها عن سرها وغوايتها؟ مفعمة بالسؤال عنها، كما صوّر صورة “الأرقم”، التي استطاعت أنْ تبقي حضورها حتى اللحظة دون أن يلحقها النسيان رغم أنّ لكل عصر حساسيته الجمالية وميله والتأثير بطريقة تختلف عن سابقه؟ لا شكّ أنّ الإجابة عن هذا السؤال في عالم مسلع ليست قريبة المنال إن لم تفتقد الوضوح الكافي، ولتجاوز هذه المحنة إنْ جاز لنا التعبير، أرفق الروائي صورة أخرى، قد تجد إجابة ما على السؤال أو أي تساؤل ينشأ في هذا السياق، كصورة “طيغون” التي لعبت دورًا رئيساً في الرواية، ولم تكن شخصية مشاعا، التي بقت تتعاطى البقاء في الذروة في المتن الروائيّ كما سعى الكاتب من خلال تصويره لشخصياته الروائية سعيه المتواصل للبحث عما هو كلي كما نشاهد في صورة “عمرو بن جابر” حتّى وإنْ تعلق الأمر بإيجاد أشكال تعبير صادمة وغير معهودة أو باكتشاف العابر في مكامن الخلود. ذلك العابر يعني وقائع ومشاهد وأحداثاً عامّة في طورها إلى التحوّل كما نشاهد صورة “ماسا” فيما الكلي هو حقيقة خاصة مرجعها الذات. إنّ خطاب المرسم الذي وظّفه الروائي معارض لتاريخ جمالي سابق، لم يكن سوى طريقة ذاتية للتعبير عن الدائم.
والمقصود بالدائم هو الرؤية لتاريخنا الإسلامي العربي، أي خلق تاريخ روائي يحاكي التاريخ المروي مكتوباً أو شفاهياً، هذه العلاقة الجدلية في الرواية، تتجلّى في المتن الروائي على شكل صور درامية، “إنّي نبيّ هذه الأمة.
نظرَت بدهشَة ونظر “عمرو بن جابر” بعيون أتعبَها الشوق إلى صاحب ذلك الصوت الواثق، فّوجداه رجلاً بهي الصورة أبيض الوجه، كان الأربعة الأنوار يُتابعون المشهد وبعض السائرين القربين… ص180″.

 


وإذا أرفد نص رواية “ملائك نصيبين” إلى فئة المتكلمين للشخصيات الروائية بلغة الانغلاق، وإنْ لم تلامس لغتهم حدّ الدهشة، أو الإكراه الأيديولوجي، لقلنا إنّ هذه الرواية منشور ترويجي لفكرة محدّدة، لكن ما قرأناه، هو إعلاء الذات الجماعية، على ذات الفرد، أي هناك دعوة أخلاقية قادمة، تُبخس ما هو شائع ومتعارف عليه، وهذه الدعوة قائمة على السؤال القادم من ضروريات الحاجة، “أوقدت مشاعل عيد الكافرين ورفعت بها المعاصم والأيادي للسماء… وأنزلت السماء من فوقهم أستاراً للغروب مخضّبة بحمرة الشفق، واجتمع الأصاغر والأكابر عند كعبة الرّبّ لينظروا إلى الربّ” ص153.
كما وظّف الكاتب د. أحمد خالد مصطفى الوقائع التاريخية كمحاور للواقع، وليس تجاوزاً له، موظفاً النهج المادي لقراءة الوقائع التاريخية، بعيداً عن التزويق وتجميل القبيح، ولم يترك شخصياته الأداة الأولى في كتابة نصّه، تقع في حيرة، أو بين خطابين، بل لجأ للشّكّ الذي يفضي ليقينية ما أراد له الكاتب الوصول إليه، “… وظلَّ “عاصف” شهورًا يزور الساحر يتعلَّم أمور السحر، ويزور الراهب يتعلًّم أمور الدين… لكن “عاصف” أصبح يفعل أموراً كانَت عجيبة على مسامع الساحر، وعجيبة على مسامع الراهبة، أموراً تُصدَّق” ص25.
وفي ظلّ هذا الفضاء الروائي الممتلئ بالصراعات الدموية، تُضيء بعض المواقف الانفتاحية التي وظّفها الكاتب لصالح رؤيته، تكفي لتدّل على موقف الروائي النقدي والمستنكر للانغلاق، “سفكَ الدّم وأهلك كلّ شيء جميل وتعالى على كلّ شيء، وظنَّ أنّه كلّ شيء. المتعجرف اعتقَد أنّ الكون بملايين مجرَّاته وملايين مخلوقاته قد خُلِقِ تهيئةً له أن يحضِر ويُشرِّف الأرض!” ص12.
لا ريب في أنّ الحوار من حيث هو أداة للتواصل بين الشخصيات الروائية يمثل ضربا جيّداً من التفاعل الاجتماعي، داخل الفضاء الروائي إذ تتعلم تلك الشخصيات من بعضها البعض، يُضاف إلى ذلك – يعتبر الحوار مكوناً أساساً للسلوك الاجتماعي الذي يتقبّله المتلقّي، وحافزا على التدرّب لاستيعاب ما يريد طرحه الروائي من رؤى، “- يا ” أسعد إنّي رأيتُ الليلة في منامي أنّني أُذبح! وأنّ دمائي تصعد إلى السماء فتمطر على الناس… وإنّي أريد أنْ تُوِقظ الراهب “شافع”، فليس غيره يعبّر رؤياي.
– يا أسعد…” ص35.
وإذا كان للحوار جلّ هذا الأثر في تحقيق الترابط والتفاعل داخل المتن الروائي، فمن المؤكد أن الحوار سيكون أداة لمزيد من التبادل الثقافي بين أفكار الشخصيات الروائية، والكاتب الذي يجعل من هذا الحوار جسرًا لعبور أفكاره للمتلقي، “- وفي بضع دقائق سقطَت أسطورة.. وبدأ الصبيان يتضاحكون عليه ويصفعونه ويتهكَّمون به… ثم صاح “أسعد” في وسط الناس:
– أيها الناسُ إلى بعضهم في استغرابٍ واستنكار، فاكملَ “أسعد”:
– ابن الملك العظيم “ملكيكرب”” ص61.
مما ينبغي التنبيه عليه هو أنّ البيئة -وهي هنا لا تعني البيئة الطبيعية فحسب، سواء كانت صحراء أو زراعية، فالحوار كاشف عن هذه البيئة، خاصّة في رواية “ملائك نصيبين”، التي دمجت بين البيئتين- صحراوية وزراعية في ذات الوقت، لإثراء ثقافة الحوار، “- أتتبعون أباطيل البشر يا أرقم، أبعد كل ما مررنا به؟
قال له “الأرقم” بقوّة:
– انظُر إلى فطرتكَ يا سيدوك، انظر إلى فطرتك ودع عنك ما كانوا يلقنونك إياه، انظر إلى فطرتك” ص369.
والسبب الذي يجعلنا نقول إنّ الحوار هو جزء من هوية الشخصيات الروائية التي يتكلمون بها، وأداة للتواصل بين الأفكار التي تعبّر عن هذه الهوية، “- إقرأ.
– ما أنا بقارئ.
فجذبه وضمّه ضمّةً ثالثة.. ثمّ قال له:
– اقرأ باسم ربّك الذي خلَق
– خلق الإنسان من علَق
– اقرأ وربك الأكرم
– الذي علَّم بالقلم
– علم الإنسان ما لم يعلم” ص233.
هذه الهوية الدعوية تؤدّى إلى شكل من أشكال الحوار المنفتح، الذي لا يشكِّل تسلّطاً على المتحاوريْن، بقدر ما ينفتح الحوار على تبادل الأفكار، وعادة يكون هذا الشكل عبارة عن مناظرة تغلب عليها الرؤية، وليس فكرة الهيمنة، “- حسنا، ما المشكلة لديك، لم أفهم؟
قال “أبو القاسم” المشكلة هو أنّ المسيح قال في هذه البشارة في أولها، “مناحما آخر”، أي أنّ هناك مناحما غيره أيضاً مُبشَّر به… قال “تميم”: مناحما غيره؟ من تقصد؟” ص198.
يبقى السؤال هل أصبح الروائيُّ مؤرِّخ العصر الحديث؟ إلى أيّ حدّ نجح الروائي د. أحمد خالد مصطفى في روايته “ملائك نصيبين” في كتابة تاريخ متخيّل مبنيّ على وقائع تاريخية معلومة؟ هذا متروك للقارئ الذي يجيب عن هذا السؤال من زاوية، هل الاشتغال على التاريخ من باب الهروب من الواقع أو لمحاولة فهم هذا الواقع أكثر فأكثر؟