هكذا عِشنا اليومَ الأخيرَ في مجزرةِ مخيمِ تلّ الزعتر

ياسر أحمد علي
كاتب فلسطيني
كان اليوم الأخير والجدار الأخير.. بعد حصار 52 يوماً.. وقتال مرّ ومفاوضات أمرّ.. وبعد 72 هجوماً و55 ألف قذيفة، جاء الأمر من غرفة القوات المشتركة إلى قيادة العمليات في المخيم: إن على التشكيلات القتالية أن تتحرّى طريقها للخروج من المخيم في الجبال والأحراش المحيطة بالمخيم.. وبدأ المقاتلون بالخروج المنظّم أحياناً والعشوائي أحياناً أخرى.. جماعات وفرادى، استُشهِد نصفُهم على الطريق..
في هذه الليلة.. منذ 41 عاماً. كان أهالي مخيم تل الزعتر يودّعون بعضهم قبل موتهم القادم.

يودّعون الرجال الذاهبين إلى الجبال، العابرين إلى المستحيل في المنطقة الغربية من بيروت.
يودعون البيوت المهدمة.
يودعون الأزقة والزواريب.
يودعون المقابر المؤقتة.
يودّعون مستشفى الهلال الأحمر.
يودعون فرن الثورة.
يودعون حنفية الماء والدماء.
يودعون تلة المير.
يودعون مركز الصيانة وإعادة تأهيل الأسلحة.
يودعون مخازن غُرَّة المليئة بالعدس، الذي سُمّي الحصار باسمه (حصار العدس).
يودعون كلَّ ما يودّعُهُ المتوجِّهُ إلى منصة الإعدام.
إلى إعدامٍ لا تسبقه: آخر الأمنيات.

كان ذلك الوداع إيذاناً واستقبالاً لنكبتهم الثانية القادمة في اليوم التالي: في 12 آب (أغسطس) 1976، أكملت المجزرة تفاصيلها وضحاياها الـ 4200 بين قتل وذبح وسحل وفلخ وتصفية.

كنتُ طفلاً أرقب كل هذا.. لتنمو الذكرى في وجدانِ الطفل وتكبر معه، في خيالاتِهِ، وتسيطر على أحلامِهِ ردهاً من الزمن..
في الليلة الأخيرة، قبيل سقوط المخيم، عادت أمي باكراً من عملها في فرن الثورة، سمعتْ أحاديثَ الرجالِ المقاتلين هناك. نقلوا أحاديث المفاوضين بيأس وبؤس، عَلِمتْ أمي أنه حان وداع المخيم، إلى حياة أو موت جديد.
عادت إلى البيت لكي تُحَضِّـرنا للمجهول، أرادت أن نكون جاهزين لشيء تجهله هي، ولكنها تتوقعه، بدأت بتحضيرِ أخي محمد (14 سنة) للخروجِ مع المقاتلين.. هو وجارنا أبو جمال وابنه جمال. أعطتْهُ هوياتِنا وأشياءَنا الثمينة، على اعتبار أن خروج المقاتلين كان أسلم وأضمن، وفقاً لتجارب الذين تسللوا إلى المخيم أثناء الحصار.
خرجنا صباحاً.. كان الناس بالآلافِ، يمشون بِحذر وخوف المتسلل إلى وكر الضباع، يحملونَ أغراضهم، ويقتربون من حواجز الميليشيات الكتائبية. وحين أصبحنا في مكان لا يسمح لنا بالعودة فيه، بدأ إطلاق الرصاص.
غادر أخي مع المقاتلين، وبدأت بتحضيرنا، حمّمتنا نحن الصغار، كأنها تريدُنا نظيفين في مواجهة الموت، وألبسِتْنا ثياباً مخيطة الجيوب، وأوصتنا أن لا نخبر أحداً عمّا في جيوبنا، وقالت إنه دواء لمرض السكري لها.

صدّقنا الأمر، فنحن لم نعرف على ماذا سهرت طوال الليل.. حيث كانت تخيط الثياب التي سنلبسها. وتعبئ “بقجة” النكبات بالخبز والماء والثياب والدواء. وقررتْ أن نكونَ في أوّل فوجٍ من الخارجين، أن نبكّر في الخروج، قبل أن يتكاثر المسلحون على الحواجز..

خرجنا صباحاً.. كان الناس بالآلافِ، يمشون بِحذر وخوف المتسلل إلى وكر الضباع، يحملونَ أغراضهم، ويقتربون من حواجز الميليشيات الكتائبية، أرعبني صراخ أحد المسلحين وشتائمه. كان مراهقاً يقف عند ساتر من أكياس الرمل، يبدو عليه الخوف. وحين أصبحنا في مكان لا يسمح لنا بالعودة فيه، بدأ إطلاق الرصاص. ركضنا إلى الأمام، ورجع أخي جلال (8 سنوات) إلى المخيم مع من عادوا..
وبقي أكرم (11 سنة) وأنا (6 سنوات) مع المئات.. وبدأت المجزرة!

يأتي جزار آخر، ليبدع في التنكيل، فيأتي بقربان ثمين، يربطون رجليه بسيارتين تنطلقان باتجاهين معاكسين، كرروها عدة مرات مع قرابين أخرى، ليشفوا غليل الدم.
هذا فتى يريد الانتقامَ لمقتلِ أبيه في المعركة، يعطيه المشرفون على التسليم القرابين الذين يختارُهُم ليشفي غليلَ الدم. وتلك امرأةٌ تمسكُ البندقيةَ، وتوجِّهُ أبناءَها للانتقامِ لأخيهم، فيحضرون لها القرابين الذين اختارتهم للقتل، وتبدأ بإطلاق الرصاص فتشفي غليل الدم.

وذاك قناصٌ يجلس فوق دبابة يُتمّ تنظيف سلاحه وتلميعه، فيجلس جلسة صياد في سربٍ كبير من الأهداف، يختارُ بكل برود من يشاء ليقتله، اختياراً عشوائياً.. فيقتلُ دون أن يرى الوجوهَ.. ليشفي غليل الدم.

ويأتي جزار آخر، ليبدع في التنكيل، فيأتي بقربان ثمين، أبو علي سالم، والد قائد “المحور التحتاني” يربطون رجليه بسيارتين تنطلقان باتجاهين معاكسين، فيفسخونه قسمين، وكرروها عدة مرات مع قرابين أخرى، ليشفوا غليل الدم.
اثنا عشر حاجزاً، كانوا كمِصفاةٍ انتشرت في الطريقِ من تلّ الزعترِ إلى المتحفِ، يُنزِلونَ من يشاؤونَ من الشاحنات التي تنقل القرابين، فيخطفونهم ويقتلونهم (يُحكى أن من نجا من القتل تم استخدامه كعامل بالسًخرة، وتم بيع الأطفال الذين اختُطفوا لعائلات أجنبية)..

موكب الكادر الطبي الذي كان في المستشفى الميداني، خرجوا بأثوابهم البيضاء، ساقهم القتلةُ إلى مكان جانبي لإعدامهم، لولا أن بعض القتلة كان يتلقى العلاج قبل الحصار على أيدي بعض الأطباء، فشفع لهم، وأخذهم إلى مكان آمن. التفاصيلُ فظيعةٌ، الحواراتُ بين القتلى والقاتلين أفظع:
اعتبرني أختك..
أنا بعمر إمك..
أنا زميلك بالعمل كيف تقتلني؟!
أنا رفيق طفولتك هل تقتلني؟ِ!
حرام عليكم لا تقتلوا المجنون.
لا تسقِطوني عن ظهر ابني أنا مشلولة، لا تقتلوه.
خذوني مكانه.
اقتلوني، لا أريد العيش بعده.

في 12 أغسطس 1976.. استُشهدَ مخيم تل الزعتر، وما زلنا نحمل ذكراه منذ 41 عاماً. كان تل الزعتر درساً قاسياً، تسببَ في أن يُفضّل الفلسطينيّ أن يدخل في معركة خاسرة ومحرقة شاملة ولا يستسلم.

«مواكب النصر» التي تجرّ الأسرى في الأحياء، من أفظع ما يفعلُهُ من يظنُّ نفسَهُ منتصراً في معاركِ الدم الغوغائية.
انتصروا في معركة الدم، وانهزموا في معركة الإنسانية..

يومها رأينا البدايات، لكن النهايات أفضت إلى أكثر من ألفي قتيل في ذلك اليوم، وبرّرها الرئيس اللاحق للبنان، أمين الجميّل: الشباب فشّوا خلقهم، علماً أن تدخّل الرئيس الجميّل حال دون قتل بفية الخارجين من الحصار.. مشاهد عديدة، تجعلك تعتقد أن “داعش” تحبو في مدرسة هؤلاء، يمكن الحديث عنها، لكني أكتفي بهذا القهر/ القدر.

في 12 آب أغسطس 1976.. استُشهدَ مخيم تل الزعتر، وما زلنا نحمل ذكراه منذ 41 عاماً. كان تل الزعتر درساً قاسياً، تسببَ في أن يُفضّل الفلسطينيّ أن يدخل في معركة خاسرة ومحرقة شاملة ولا يستسلم. لقد كان الدرس الأول عن الجدار الأخير. وهذا الدرس الذي فهمه الفلسطيني دفعه ألا يستسلم في حروب المخيمات، وفي مخيم جنين، وفي حروب غزة..
السلام على تل الزعتر، السلام على أبطاله وشهدائه وأهله..