لا شك أن الحرب امرأة متوحشة، وآكلة لحوم البشر، تقتلها الغيرة كأي أنثى محرومة من السلام. تجذب الرجال بابتسامتها الخادعة وجمالها الساحر، ليُلقوا بأنفسهم في أحضانها، فتلوكهم بأسنانها اللؤلؤية واحدا تلو الآخر، وتمتص دماءهم بشفاهها القرمزية.
عزيزي القارئ ليس هذا هو موقفي من المرأة، لكن إذا نظرت في أساطير الأمم الغابرة تجد أن إلهة الخصب و الحب والحرب امرأة! هل هي “بروباغندا” سياسية داعمة للحرب؟ أم هي ألاعيب ذكورية ، ما رأيك؟
هذه الحرب ليست فقط أسطورة، بل واقعا حيا نراه يوميا. ألم ترَ أنها تدور منذ عام في أزقة غزة بين الخيام التي أنهكتها الرياح والترحال، تخطف الأطفال وهم يلعبون والآمال من بين ذراعي أمهاتهم؟ ومن لا تستطيع حمله، تخطف ذراعه أو عينه أو ساقه، وتتركه يرقب الردم، وربما تعود إليه في جولة أخرى تضمه لصدرها وتأخذه معها. ليس حبا منها، بل استحواذا وجشعا؛ فهي كالغولة تجمع الأشلاء وتصنع من عظام الموتى قلائد تزين بها نفسها. تلك هي ربة الموت إسرائيل.
إن هذه الفوضى والعنف ليست جديدة، فقد كانت الحروب دائما مرتبطة بالأساطير والألوهية.
في الأساطير القديمة، كانت الحرب دائما ترتبط بشخصيات أنثوية، كأثينا في الميثولوجيا اليونانية، وفريجا في الميثولوجيا الإسكندنافية.
أثينا، هي إلهة الحكمة والحرب الاستراتيجية في الميثولوجيا اليونانية، وتمثل الحرب العادلة والتخطيط العسكري. على عكس آريس، الذي يجسد العنف والفوضى، وهو إله يتمتع بالقوة الجسدية لكنه غير حكيم وغير متعاطف، يسعى للمعارك من أجل العنف ذاته. أثينا كانت من أشارت ببناء حصان خشبي يختبئ فيه جنود الإغريق ليسقطوا طروادة بتلك الخدعة، لكن بينما كانت أثينا رمزًا للحرب العادلة والتخطيط، نرى أن العنف والفوضى المدمرة من سمات ربة الموت إسرائيل.
كما في الأساطير الإسكندنافية، نجد فريجا إلهة الحب والجمال، التي تجسد ازدواجية الحب والموت، ترتبط أيضا بالحرب. يُقال إنها تأخذ نصف المحاربين الذين يموتون في المعارك إلى قاعتها السماوية “فولكفانغر” ليعيشوا معها وتؤمّن لهم الراحة، بينما يذهب النصف الآخر إلى “فالهالا” حيث يحكم “أودين”، إله الحرب والحكمة. هذه الازدواجية بين الحب والحرب في شخصيتها تجعلها فريدة، بعكس ربة الموت إسرائيل التي تحركها شهوة القتل وكراهية الحياة.
كان مجرمو إسرائيل ينبشون القبور في غزة ويجمعون عظام الموتى يأخذونهم أسرى مع فتيان غزة، ثم يعيدونهم بأغلفة بلاستيكية زرقاء بلا ملامح، تحملهم شاحنات مغلقة. أي عبثية تقوم بها ربة العقم، إسرائيل؟
هذه العلاقة بين الحرب والأنثى ليست محصورة في الأساطير القديمة، بل نراها في الأدب المعاصر. في قصة “الحب والحرب” للكاتب الفيتنامي نجوين نغوك ثوان، والتي تناقش الصراع بين المشاعر الإنسانية الأساسية مثل الحب وواقع الحرب القاسي. من خلال شخصياتها وأحداثها، تُظهر القصة كيف يمكن للحرب أن تشوه العلاقات الإنسانية وتجعل مشاعر مثل الحب تبدو مستحيلة أو صعبة في خضم الفوضى والعنف. كما تسلط الضوء على الصراعات الداخلية للأفراد الذين يعيشون في أجواء الحرب، وتُظهر كيف تتقاطع التحديات الشخصية مع الظروف الاجتماعية والسياسية الأكبر.
تروي القصة حكاية رجل يعشق امرأة يُشاع أنها تأكل لحوم البشر، ليصحو بعد ليلته الأولى معها وقد فقد ساقًا. عندما يسألها إن كانت قد أكلت ساقه، تثور غضبا وتطرده، ليعود معتذرا بعد أيام قائلاً: يبدو أنني فقدتها في الحرب؛ فقد كنا نحارب الفرنسيين والأمريكان والصينيين، وكنت قد نسيت ذلك. تسمح له بالعودة للنوم بجوارها، ليكتشف مرة أخرى أنه فقد ساقه الثانية. تبكي وتغضب وتطرده إلى الخارج إذ يسألها عن ساقه، ويزحف مبتعدا، لائما نفسه لأنه صدق أقوال الآخرين ولم يسمع لقلبه. يفقد ثقته بحبها، لكنه يجلس منتظرا أمام بيتها، لتسمح له بالدخول مرة أخرى. وفي كل مرة يكتشف أنه فقد عضوا آخر، ليشكو النسيان ويلعن الحرب، ثم ينتهي بفقدان رأسه. كانت كلماته الأخيرة: “كم أكره الحرب!”.
هل كان موته من أجل الحب أم الحرب؟
في النهاية، نرى أن هذه الحرب ليست سوى محطة ضمن صراع طويل بين الحياة والموت، وبين العدالة والظلم. وبينما ترفع ربة الموت إسرائيل ساطورها لتعيد تشكيل الحدود أمام إلهة الخصب الفارسية أناهيتا حامية المياه، تقف عشتروت اليوم على أبواب مدينة صور ممتشقة سلاحها، تدافع عن أرض الفينيقيين، لتعيد للحياة دورتها حتى لو كان ثمن ذلك القتل. وفي هذا الصراع الطويل، تبقى الحياة مهددة، بينما تجسد الحرب بأشكالها المختلفة امرأة متعطشة لا تشبع من الدماء والدمار، إلا أن مشيئة رب الأرباب تحول دون ذلك فـ “كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”.