هل يمكن لحمار أن يكون مأساويًا؟ – لكون الواحد ينوء تحت حمل لا هو قادر على حمله، ولا هو يستطيع أن يلقي به؟ …. إنها حالة الفيلسوف.
نشرت هذه الفقرة في كتاب غسق الأوثان لفريدريك نيتشه، حيث ناقش فيه موقفه من الأخلاق والجمال، وطرح أسئلته بطريقة “القرع بالمطرقة”، كما وصفها، في إطار تحطيم القيم التقليدية والتصورات الراسخة. في هذا الكتاب، يعمل نيتشه على نقد العقلانية الزائدة والتصورات السطحية حول الحقيقة والأخلاق، ويفكك المفاهيم التي رآها معيقة لإرادة الإنسان.
نيتشه شن هجومًا على سقراط، الذي يُعتبر رمزًا للفلسفة العقلية التي تعتمد على الحوار والأسئلة. اتهمه بأنه من العامة، وانتقد قبح وجهه، حتى أنه كاد أن يتهمه بالإجرام، كما جاء في إحدى فقراته: “يفيدنا الأنثروبولوجيون من علماء الإجرام بأن المجرم النموذجي قبيح. لكن المجرم منحط. فهل كان سقراط مجرمًا نموذجيًا؟”
ألا ترى عزيزي القارئ أن نيتشه في هذا الكتاب انتهج أسلوبا ناقدا أشبه بالإله الإسكندنافي “ثور” حاملاً مطرقته؟ فهو يهاجم بقوة العديد من الأفكار الفلسفية والتقاليد الأخلاقية والدينية التي يعتبرها “أوثانًا” ويسعى إلى تحطيمها نقدا و تفكيكا، تمامًا كما يستخدم ‘ثور’ مطرقته لتحطيم أعدائه. لكن نيتشه لا يسعى إلى التدمير المجرد، بل إلى هدم القيم الزائفة – في نظره – من أجل بناء قيم جديدة ترتكز على القوة والإرادة وتأكيد الحياة.
نيتشه هاجم معادلة سقراط “العقل = الفضيلة = السعادة”، وقدم معادلته الخاصة “الغريزة = السعادة”. دعا إلى إعادة تقدير الغرائز واحترامها بدلاً من قمعها، معتبرًا أن الدعوة إلى استئصال الأهواء أو التبتل هي دعوة ضد الحياة نفسها. وفي نقده للأخلاق السائدة، قال: “كل الوسائل التي تم استخدامها إلى حد الآن بهدف جعل الإنسانية أكثر أخلاقية، كانت جميعها لا أخلاقية في أساسها”.
كما تناول نيتشه تأثير الجمال على أحكامنا الشخصية، موضحًا كيف يخدع الجمال الناس ويدفعهم إلى الحكم السطحي. الجمال يغوي العقل ويعزز المظاهر الخارجية، بينما القيم الجوهرية مثل القوة والحيوية غالبًا ما تُهمش. في مثاله على ذلك: “إذا سحقت صرصورًا، فأنت بطل. لكن إذا سحقت فراشة جميلة، فأنت شرير”. الأخلاق إذًا تتأثر بالجمال، مما يعيق الحكم السليم.
لم يكن المجتمع الألماني في عصره بمنأى عن نقد نيتشه، ففي فصل “أشياء يفتقر إليها الألمان” انتقد الثقافة الألمانية لافتقارها إلى الحيوية والإبداع. عبّر عن استيائه من الروح البرجوازية التي تفضل الاستقرار وتقاوم التغيير. كما انتقد الدعوة إلى التقليد والقومية الضيقة، ورأى أن المجتمع الألماني يحتاج إلى ثورة لتحريره من تلك القيود.
في ظل شعوره بالانعزال عن روح عصره، وجّه نيتشه نقدًا للحداثة وما تمثله من قيم مثل الديمقراطية والمساواة، معتبرًا أنها تعزز الاعتدال وتقتل الفردية والعبقرية. شدد على أهمية القوة والشجاعة في مواجهة ما اعتبره انحطاطًا سائدًا في مجتمعه، إذ رأى أن الحضارة المعاصرة تتعارض مع القيم التي تعظم العظمة والتفوق.
إلى جانب هذا، كان نيتشه معجبًا بالحضارة اليونانية الكلاسيكية التي رآها تجسيدًا للحيوية والقوة. أثنى على حبهم للحياة وقبولهم للمأساة كجزء منها، مما يعكس فلسفة “التأكيد على الحياة”. كما قدر الفنون اليونانية، وخاصة المأساة الإغريقية، التي رأى فيها تعبيرًا عن الروح الإنسانية في مواجهة قسوة الحياة.
هدف نيتشه في كتابه إلى تحطيم الأوثان، أي القيم التقليدية التي تجعل الإنسان كائنًا ضعيفًا غير قادر على تأكيد إرادته. ودعا إلى إعادة تقييم جذري للقيم، حيث يجب على الإنسان أن يخلق معاييره الخاصة المبنية على القوة والإرادة وتأكيد الحياة.
سؤال يطرح نفسه: هل استفاد هتلر والنظام النازي من أفكار نيتشه التي تدعو إلى التفوق وعدم التقيد بالنظام الأخلاقي والديني لصقل العنصر الآري؟
سؤال آخر يجول في تفكيري: هل أخذ بنيامين نتنياهو شيئًا من أفكار نيتشه؟ دعنا نرَ بعض التقاطعات.
دعا نيتشه إلى “إرادة القوة” وتجاوز القيم التقليدية لصالح قيم جديدة تُركّز على القوة. نتنياهو بدوره يؤمن بأهمية القوة العسكرية والسياسية لإسرائيل، ويعمل على تعزيز موقفها في المنطقة. كما دعا نيتشه إلى تجاوز القيم التقليدية وخلق قيم تخدم الطموحات الشخصية والوطنية، ونتنياهو يتبع أسلوبًا سياسيًا براغماتيًا يتجاوز الأيديولوجيات التقليدية، ويركز على تحقيق الأهداف العملية.
نيتشه كان يؤمن بأن العظمة تأتي من مواجهة التحديات، ونتنياهو، خلال مسيرته السياسية الطويلة، واجه العديد من التحديات الداخلية والخارجية، وسعى دائمًا للتفوق على خصومه.
لكن الاختلاف الكبير يكمن في أن نتنياهو يستخدم القوة بطرق دموية، فهو لا يحمل مطرقة بل قذائف تحصد أرواح الأبرياء وتقتل كل أثر للحياة و ما تمثله من خُلق و جمال، هذا يتناقض تمامًا مع نيتشه، الذي رغم نقده العنيف للقيم التقليدية، لم يكن عنصريًا أو داعيًا للدمار، بل كان يهدف إلى تعزيز الحياة والإنسانية من خلال تحرير الإنسان من القيود الفكرية والأخلاقية الزائفة.
هل نجح نيتشه في تغيير المثل العليا للإنسانية بحيث أصبحت الأخلاق في تراجع، والعالم المتحضر اليوم محكومًا بقوانين القوة؟
إذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا نصرخ ونحترق، ولا يسمعنا أحد؟