يقول نزار قباني:
“تاريخـي! ما ليَ تاريـخٌ إنـي نسيـانُ النسيـانِ”
ولكن قبور الأحبة تُعيدُ إليَّ تاريخي.
شيءٌ خفيٌ يربطني بهذا التراب.
يربطني بحجارةِ وصخورِ وأزقّةِ ومزاريبِ “حلب”.
بباعتها المتجولة، بعربات خضرَتها، بأسواقها وأرصفتها وحتى بالحفرِ في شوارعها.
تشدّني هذه المدينة بمآذن مساجِدها وقبَبِ كنائِسها، وبأمهاتها اللواتي يركضنَ خلف أطفالهنَّ.
بحقائب أطفال مدارِسها.
بمطاعمها الشعبية.
هذا التراب نعشقه آباء عن جدود .. ولكل واحد منا أقرباء وأهالي رحلوا وبقيت أجسادهم مدفونة في هذه الأرض.
كيف لنا أن نتركهم يعانون تحت التراب لوحدهم؟
كيف طاوع ضمير أولئك الذين هاجروا؟
عندما كنت يافعاً، وعندما يصدف أن أزور المقابر، فأقرأ أسماء الموتى وأربطها بذاكرتي مع الأحياء، فأعرف أن خالة وعمة فلان، أو والد ووالدة وأقرباء فلان، مدفونين هنا.
هل ما زلنا نذكر أنه في بداية الأحداث، وفي حلب، أصبحتِ المقابر المسيحية خارج سيطرة الدولة، فكنتُ غالباً أفكر أن ووالدي ووالدتي وخالتي التي ربّتني، وأقربائي جميعاً، أضحوا وحيدين.
كم أنّبَني ضميري، بأني تركتهم لوحدهم وَهُم الذين كانوا معي في خطواتي الأولى ومنحوني الحب والحياة حتى أستطيع مجابهة الحياة.
كانت تتساقط القذائف عليهم، فهل شَعَروا بالخوف كما شَعرنا نحنُ؟
وبعد عودة سيطرة الدولة على منطقة المقابر، وفي أولى زياراتي لهذه القبور، عادت نفس الأسماء على نفس القبور تتراقص في ذاكرتي.
من سيزورهم بعد أن رحل أولادهم، وهاجروا؟
من سيتذكرهم.
من سيحمل الورود ليضعها على قبورهم؟
من سيقف كطفلٍ صغيرٍ أمام والديه؟
كيف تطاوعنا ضمائرنا أن نتركهم؟
عندما أقف أمام قبور أهلي، أعود إلى أيام طفولتي، فأتخيّلهم وأنا طفل أمامهم.
أتخيل أمي عندما كانت تأخذني معها إلى الزيارات.
أتخيل والدي وانا واخي سامر نتنزه على كورنيش اللاذقية، ونأكل الكعك او نشرب “الكازوز” في مقاهي الكورنيش.
أتخيل خالتي تُدرِّسني اللغة الفرنسية، واتذكر قولها “اريدك ان تقرا ككرج المي وليس تكسير الحطب”.
أنا لم أترك آبائي، ولكن هل سيزورني أبنائي في المستقبل؟
أيها الموتى أيها الآباء والجدود، الذين تركهم الأبناء.
أنا وغيري من الذين بقوا “إلى أن يقضي الله أمراً كان مقضيا”، سنكون أبناء لكم.
سورية بالكامل هي ابنة لكم ونحن أبناء لها.
اللهم اشهد اني بلغت