بقلم : سامح المحاريق
في المشهد الساخر الشهير من مسرحية المتزوجون، يذهب سمير غانم لتعديل الجاكيت، ليعود ببنطلون كبير، وعندما يعمل على البنطلون، يتحول الجاكيت إلى خيمة كبيرة، فيقول جملته الشهيرة: قعدت ألم البنطلون الجاكيته ضربت!
هذه الحالة تصلح لتوصيف السياسات الاقتصادية في الأردن، وخاصة المتعلقة بالقطاعات، ومنها القرارات التي اتخذت في اليوم الأخير تقريبًا من حكومة الدكتور بشر الخصاونة بتعديل رسوم السيارات الكهربائية، وبغض النظر عن أثرها في المدى المتوسط والطويل، فما أحدثته هو حالة من الإرباك، وتعديل في مواقع تجار وبائعي السيارات الكهربائية، وسيارات البنزين أيضًا، ومن وراء ذلك، قطاع الائتمان المصرفي المرتبط بسوق السيارات.
بعد فترة وجيزة، بدأت مشكلة تصادم القطاعات تظهر مرة أخرى، مع لائحة الأجور الطبية الجديدة، والطرفان، هم الأطباء من جهة، ويقابلهم، شركات التأمين، وبينهما بطبيعة الحال ملايين المواطنين، الذين عليهم أن يتكبدوا في النهاية تكلفة زيادة الأجور، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فالمنطقي أن ترتفع تكلفة التأمين الصحي المطروحة، وأصحاب العمل وهم يقومون بمعالجة ذلك، ستنخفض شهيتهم لإجراء زيادات الرواتب.
لنستمكل سويةً مسار سيناريو رفع الأجور الطبية، ولنفترض أن جهات التوظيف ستقوم بتغطية التكلفة، أو تقاسمها مع الموظف، ولنفترض أن هذه التكلفة بواقع 5 دنانير شهريًا لمليون مؤمن، بمعنى 60 مليون دينار سنويًا. سنجد في هذه الحالة سيولة سحبت من السوق كان سيتخدمها مليون شخص لشراء الأغذية أو القرطاسية أو المواصلات، بمعنى أن المستفيدين من هذا المبلغ في حد ذاتهم سيصلون إلى عشرات الآلاف من أصحاب الأعمال الصغيرة، وبدورهم سيقومون بدفع التزاماتهم للموردين الكبار، ولمدارس الأولاد، وما إلى ذلك، والأخيرة ستقوم بدفعها للمعلمين.
أين ستذهب هذه الأموال؟ سترسو في النهاية لدى طرف واحد وهو الأطباء، بمعنى صناعة شكل من أشكال تركز الثروة، وصحيح أن الطبيب سينفق الزيادة في دخله، أو سيدخرها، مهما يكن، ولكن المدى الذي سيكون مفتوحًا أمامه للإنفاق هو أضيق كثيرًا من مدى الإنفاق المتاح لأكثر من 350 مواطن، على أساس عدد الأطباء لعدد السكان في الأردن!
كنت قبل أيام مع صديق عايش التجربة الصينية منذ بداية الثمانينيات، كان ذلك ومعظم الصينيون يرتادون الدراجات الهوائية، والسيارات في بكين أقل منها في أي مدينة صغيرة وهامشية في أوروبا، وفي ظل حديثنا كان يبدي تشاؤمًا حول مستقبل الصين لا يتعلق بأي خلفيات معروفة مثل الحروب التجارية، أو التركيبة السكانية، ولكنه يظهر تركز الثروة بوصفه المشكلة الجوهرية أمام الاقتصاد الصيني، بما يهدده بفقدان حيويته.
معظم الأموال في أرصدة السوبر – أثرياء تصبح أموالًا جامدةً في أرصدة مصرفية واستثمارات غير إنتاجية، أو أموال قابلة للهجرة في أي وقت، بمعنى أنها تخرج من عجلة الاقتصاد التي يسميها أي بائع بسيط، بالحركة، فيقول، عادةً بكثير من الخوف والتردد أن الحركة تعبانة.
الأطباء في الأردن ليسوا من خانة الأثرياء طبعًا، وكثيرون منهم، هبطوا من الشريحة العليا في الطبقة الوسطى، إلى شرائح أدنى، ودواليك، ومطالبهم بزيادة الأجور الطبية عادلة إلى حد بعيد، فالطبيب يستثمر الكثير من المال والوقت من حياته ليصبح مقصدًا لقاصدي العلاج، وليشتبك مع الإجراءات الطبية المعقدة التي تتجاوز ما يمكن أن يقدمه الصيدلاني من خدمات كثير منها تكون مجدية وفاعلة، ولكنها تبقى سطحية قياسًا بما يقدمه الطبيب، والنقابة تؤدي دورها المفترض بحماية مصالح منتسبيها، فهي نقابة وظيفتها خدمة الأطباء ورعاية مصالحهم، ولا يمكن تحميلها بأكثر من ذلك، بل والعمل على خلق قناعة مغايرة أمر لا يتصف بأي عقلانية اقتصادية، والمونة لا تدير الاقتصاد ولا المجتمع.
في المقابل، تعاني شركات التأمين منذ سنوات، وتجد نفسها أمام مشاكل مرحلة، مثل التأمين الإلزامي على السيارات، وما تتكبده من خسائر بسببه، في ظل وجود حالات كثيرة من التلاعب، وفي التأمينات الصحية المعاناة ليست أقل، ومع ذلك، قررت شركات التأمين التوافق على رفع الأجور الطبية، وذهبت النقابة إلى نسبة أعلى من الرفع، وتولد الخلاف عند هذه الحالة.
الدور التنظيمي للحكومة يفترض أن يتحرك في ظل عاملين أساسيين، المحافظة على القطاعات واستمراريتها ومنعتها، وتحقيق المصلحة الكلية للجميع، والجميع تعني المواطنين والمؤسسات سويةً، فاستهلاك المؤسسة في عمليات تلطيفية وتجسيرية من أجل شراء الرضا الشعبي مسألة تنطوي على مشكلات ستظهر عاجلًا أم آجلًا.
يفترض أن تحقق الحكومة تقدمًا في مسألة الفوترة ودورها في تعزيز العوائد الضريبية، وهذه نقطة مهمة، والأطباء يشكلون فئة واسعة مستهدفة، ويبدو أن النقابة ستتجاوب بصورة ايجابية مع هذه الآلية الجديدة، والسؤال، يتمثل في التوظيف المتأتي لهذه الضرائب وأثره على تنشيط الحركة الاقتصادية!
الحكومة تفضل أن تتعامل مع رأس النبع أو المصدر، بدلًا من تشجيع تمرير السيولة للأسواق، وهو ما يبدو خيارًا أكثر حصافة من الناحية الاقتصادية لأنه سيكون إطارًا للحركة في السوق، ووقتها يمكن للحكومة من خلال ضرائب المبيعات والرسوم أن تتحصل على هوامش ضريبية متولدة من الحركة.
يفترض أن السوق النشط أكثر قدرة على توليد الضريبة من السوق الراكد، وفي ذلك السوق، يمكن للحكومة أن تتدخل في أداء دور تنظيمي بدلًا من الفرجة على قطاعين يتصادمان، وكلاهما، إلى حد بعيد، على حق!