الديناصور الصغير..سعيد ذياب سليم

هل شاهدت طفلًا يفرد ذراعيه، ويدوس الأرض بقوة، ويزأر كالديناصور أو يقلد حيواناً آخر كالأسد أو الضفدع؟
هذا النوع من اللعب التخيّلي غالباً ما يكون مستوحى من مشاهدته للرسوم المتحركة، مما يثير خياله ويشجعه على تقليد صفات القوة والتعبير الصوتي. مشكلاً بذلك جسرا يصل بين عالمه الداخلي وعالمه الخارجي.
يدفع هذا التقليد الطفل للتعبير عن مشاعر القوة والقدرة، ويشكل متنفساً لطاقة الطفل الطبيعية، حيث يوجهها نحو محاكاة عالمه الداخلي واستكشاف البيئة.
ما هو اللعب؟
يعرّف يوهان هويزنجا في كتابه “الإنسان اللاعب” اللعب بأنه نشاط اختياري ومنفصل عن الواقع، يُمارس للمتعة ضمن حدود معينة. ومع ذلك، لا يوجد تعريف شامل يحيط بجميع جوانب اللعب، إذ يُعتبر اللعب مفهوما غنيا بالرموز والاستعارات، مليئا بالإبداع والخيال. يعتبر اللعب، بحسب هذا المنظور، مجالا متاحا للتعبير الحر والتفاعل الهادف مع العالم.
اللعب: مفتاح فهم الذات وتطوير المهارات الاجتماعية
من خلال اللعب، يتمكن الأطفال من تجسيد مشاعرهم وأدوارهم الاجتماعية، حيث تتيح لهم هذه العملية الرمزية استكشاف العواطف وتجريب الأدوار بطريقة آمنة. فعندما تلعب طفلة دور الطبيبة، فإنها تحاول تهدئة دميتها تماما كما فُعل معها، مكتسبةً بذلك مشاعر الرعاية والمسؤولية. يساعدها هذا النوع من اللعب على فهم العواطف، وتشكيل وعي مبدئي بدورها في المجتمع، مما يساهم في تطوير شخصيتها وبناء إحساس متماسك بالذات تدريجيا. وكما أشار دونالد وينيكات في كتابه “اللعب والواقع”، فإن اللعب يعدّ عاملا حاسما لربط العالمين الداخلي والخارجي، مما يمكّن الطفل من استكشاف مشاعره وسماته الشخصية وتطوير ثقته بنفسه.
دور اللعب في التعليم
تبنّت المناهج التعليمية أنشطة اللعب للأطفال، لخلق بيئة تعليمية مرنة وممتعة تبعدهم عن الجدية الملزمة. من خلال المواد والأدوات والألعاب المصممة لهذا الغرض, مثل الأوراق الملونة والرمل و المعجون، أصبح للطفل دور إيجابي في التعلم والاستكشاف، حيث يمكنه التعبير عن فضوله وتطوير مهاراته لحل المشكلات من خلال مشاركته في لعب دور البائع أو العميل وتوظيف ذلك في أمثلة من الواقع. ولأن الطفل عنصر اجتماعي يتمتع بالحرية والحقوق، يتيح له اللعب اكتساب الثقة ومهارات التفاعل في بيئة آمنة وداعمة.
البعد الثقافي والاجتماعي للعب
يمثل اللعب جسرا بين العالم الداخلي للطفل والبيئة المحيطة، حيث يكتسب من خلاله مهارات متنوعة ويتفاعل مع مفاهيم ثقافية. الأطفال غالبا ما يقلدون أدوار الأب والأم، أو يشاركون في طقوس بسيطة يشاهدونها، مثل الصلاة أو المصافحة والعناق للتعبير عن الحب. وهذا التجسيد يساعدهم على استيعاب العادات الثقافية ويمنحهم فرصة للتواصل مع ثقافتهم بطريقة مرحة.
كل منا يحنّ لألعاب الطفولة، ونجد السعادة في المشاركة بلعب الكرة أو اللحاق بالأبناء والأحفاد، فهي لحظات تعيدنا إلى عوالم من الخيال واللهو، بعيدًا عن ضغوطات الواقع، ونعرض فيها للأطفال جوانب أخرى من شخصياتنا.
اللعب غريزة تتجاوز الإنسان
نرى اللعب كغريزة في الكائنات من حولنا؛ القطة تركض وتدور حول نفسها، والجراء تلاعب أمها، والجنين يعلن عن نفسه بالحركة داخل رحم أمه، مُستكشفا بيئته الأولى، وباعثا إشارات أولية عن تطور إحساسه بذاته.

اللعب في زمن الشاشات
تغير وجه العالم منذ اختراع الإنترنت وتدفق المعلومات عبر الهواتف الذكية والألواح الإلكترونية، مما أثر على طبيعة اللعب.
يحمل الجد في جيبه بالإضافة إلى مفاجآته الصغيرة هاتفا ذكيا يتضمن تطبيقات توظف الصوت والألوان والحركة محببة للحفيد، لكن هل يعوض هذا الهاتف متعة اللعب بالرمل أو ملاحقة الفراش؟
للأجهزة جانب إيجابي، إذ تتيح للأطفال الوصول السريع للمعلومات والتواصل مع أقرانهم وتبادل الآراء في أنشطة تعليمية متنوعة. ومع ذلك، تظهر تأثيرات سلبية من الإفراط في استخدامها؛ إذ بات الأطفال يمضون ساعات طويلة منعزلين، مفضلين الشاشات بما تحمله لهم من ألعاب إلكترونية وتطبيقات مثيرة، على التفاعل وجهاً لوجه، مما أدى إلى تراجع الأنشطة البدنية والاجتماعية وتفاقم مشكلات نفسية كالاكتئاب والقلق، وضعف مهارات التواصل الشخصي.

حق الطفل في اللعب وأهمية توفير بيئة مناسبة
أقرت اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة في 1989 حق الطفل في اللعب والنشاطات الترفيهية التي تتناسب مع عمره. ورغم هذا، فقد استمرت معاناة الأطفال في مناطق الصراعات، كأطفال غزة، الذين حُرموا من حقهم الأساسي في الحياة، ناهيك عن اللعب، قتلت إسرائيل منهم حتى الآن ما يزيد عن 17000 طفل، محطمة ألعابهم و أحلامهم الوردية.
تؤكد الاتفاقية كذلك على حقوق الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، وضمان بيئة تسمح لهم بالمشاركة المتكافئة في الأنشطة الترفيهية، حيث يُطلب من الحكومات توفير مساحات وأدوات تناسب احتياجاتهم. ويقع على عاتق الأسرة وصناع السياسات واجب حماية هذا الحق، حتى في ظروف الكوارث والصراعات.

الخاتمة: اللعب ضرورة وليس رفاهية
نخلص إلى أن اللعب ليس مجرد وسيلة لهو، بل هو ضرورة أساسية لنمو الطفل وسلامته الجسدية والنفسية، وأداة مهمة لمواجهة ضغوط الحياة وبناء قدرات الطفل ليصبح إنسانًا قادرا على التفاعل الإيجابي مع العالم من حوله.
دع ذلك الديناصور الصغير يزأر مخيفا ما حوله من حيوانات قد لا تراها أنت، لكنه يلاحقها بعين عقله.