كيف يرى كلٌ منا الموت؟
هل خطر لنا مثلاً أن نُشبِّههُ بشيء ؟
من العنوان نبدأ .. ونعلم أن الموت أقرب لوحش له أسنان صفراء حتماً و لابدَّ أنها قببحة حد التقيؤ .
عناوين عدة حملت مداخل النص :
“ندوبٌ سوداء” هي القصة الأولى التي غادرنا آخر حرف فيها ونحن نلهث مع البطل الشاعر المرهف ، الذي خانته حروفه فسيق وأُخِذ مثل كلب ذليل ويُفّقَد بتهمة مروعة _كتابة قصيدة _لم يكن يعلم أنها ثورة الحاكم الظالم ، الذي لا يسمح بالتجاوز .
تُهان الكرامة ، يستباح الجسد ويُنتهك .
يضيع العمر ، تفقِد الرجولة مكانتها ، يستوطن الذل وتُمحى الاسماء ، يحتل الخوف مجرى الدم وتظل الذكرى سوداء بندوب تؤكد عن سنوات العذاب والظلمة .
سقف الحرية محدود كيف لماذا ، لا أحد يعلم !
تخرج تعود بجسد لا يشبه ذاته ، وملامح خذلها الزمن والنسيان يُطلق سراحه يعود لنفس العنوان وبطاقة الهوية تدل على إنسان كان وكان وربيعه لم يعد ذات الربيع يخشى أن يردد كلماته يخاف الوعيد :
بين الليل والاثام
وصباح يضيع بالأحلام
وأطفال يبحثون عن كسرة خبز
ونساء تقذفهن الثرثرة ورجال أكل منهم البؤس
والأرض حزينة غطت نفسها
بيوت كئيبة وصرخات الموتى بين جدرانها
تنذر بفوضى مدينة .
تعمدت الكاتبة إدراج مقطع صغير يعطينا إشارة لفحوى النص القادم ، وكأنها تدلنا أي طريق سنسلك .
كتبت : سأنزعك كما أنزع معطف الشتاء وأُعلق حبنا على مشجب النسيان .. حبك بارد قاسي وماطر .
كانت هذه العبارات مدخلاً على قصة “المعطف”
التي طرحت أكثر من حالة .
_المرأة الفقيرة التي يروق لها العمل لدى أصحاب الطبقة المخملية ، حتى وإن كانت مجرد خادمة أنيقة .
لنتعرف على بطل من نوع مختلف ، والذي حمل اسم القصة . المعطف المتكلم بحذاقة والاحتيال بطريقة ملفتة رائعة .
تمت أنسنة هذا المعطف ، فحمل مشاعر عدة في سطور قليلة . ما بين الكبر ، الخوف والكذب .. تؤكد أنها تشبه شخصية صاحبه الرجل الثري .
الذي فارقه مُكرهاً .في حين بدا حقد زوج الخادمة على المعطف المتفاخر وإتفاقه مع المعطف أنَّ كلاهما لا رغبة له بالإحتكاك او التلامس .
لكن الاحتدام ينتهي بموت من نوع آخر
كأن يقبل أحد الاطراف بالتنازل واللجوء .
تعود (تبارك) إلى أجواء أُخرى في قصصها ، وهي تؤكد قدرتها على تحرير أبطالها من مخيلتها ، وكتابة تلك التقاصيل ومراقبة ما يحدث دون أن تتدخل بأي طريقة في سرد ما يجري أو إقحام ذاتها وحشو ما لا يلزم .
فالنصوص كما هي مقصوصة بدقة وبراعة دون زيادة أو نقصان .
ففي قصة “أرواح تائهة” نعلم أن الذنب قد ينزع الحياة من براثنها . وإن كان الذنب هو القيام بالواجب على أكمل وجه كأن ينجو القاتل وتعلق الأرواح البريئة ، طالبة العدالة .في حين يدفع الثمن رجلٌ قام بواجبه الإنساني لشخص بلا إنسانية !
قد يكون أجمل ما في النص ، ذلك الوصف لروح تشكَّلت من الفخار ورائحة الطين الحي ، تعيد ملامح وجه طفلة حلوة تحاور رجلاً كره الحياة وعافها ، اعتزل البشر
يكاد يُجن يُحدِّث روحاً تائهة ، غير قادرة على العبور
لا يملك أن يعيدها للحياة تسألُ لماذا !
في حين انتزع من بين أسنان الموت ، أشدهم لؤما وكراهية ، أرهابي لا يستحق الحياة .
في قصة “نهم”
هنا نجد بطلاً نشفق عليه ، ونكره ما آل اليه .
فلو بحثنا جميعاً في أعماقنا لعثرنا على أسباب كثيرة للخوف قد تقتلنا أو تشل مجريات حياتنا .
لكننا ننجو ، وقلةٌ لا يفعلون .
وهنا يثيرني سؤال : لمَ جُنَّ الناس في آخر القصة وكأن الكاتبة تشير الى زمن الضنك الذي مرَّ علينا في كورونا
أسواق شبه خالية وكأن المجاعة قادمة لدرجة أن البعض قد يأكل حتى البشر .
كيف سقط “عبدالغفور “السمين جداً الخجول الجبان
الخائف من التدافع وبات وجبة دسمة تهافت عليها الناس دون إدراك أي شيء هذا المتجمد الذي مات رعباً
لا أحد يدري ولا أحد يكترث .
في هذه المجموعة كلُ قصة تنتهي بموت ما ففي قصة “رأس السنة”تقرر البطلة مستقبلها هي وتحقق أمانيها .
كما كان علينا أن نستعد لذلك الزائر الأصفر وهو يقترب من أحدهم ويستل روحه ، مستغلاً تلك الأحزان والندوب والمواقف الكبيرة ، ولا يترك حقه أبداً … فهو يعود للثأر كما في قصة “الماضي عود ثقاب ”
أمَّا قصة ” غرباء ولكن” والتي شعرت بأنها معقدة بعض الشيء ويصعب عليك شرحها دون ان تقرأها بروية ..
في “غرباء ولكن” وجهة نظر أن البعض يصدّق أكاذيباُ تروق له ، وهنا تعددت الأقاويل التي غالباً يكون مبعثها الكراهية والحسد الغيرة .
الموت غرقاً كيف لماذا لا جواب منطقي !
لكن جميع الشخوص يلتفون حول الشخصية الوحيدة التي فارقت القصة (جابر) لمَ طفا على الخزان ، تاركاً خلفه أم مصابة بلوثة الوسواس القهري ، أب بخيل دميم ، ناقم على القدر محارب لمن حوله .
صديق منافق حاسد ، حبيبة خفية ،ومربية لم يكتشف أحد أسرارها وإن بدت هذه المرأة سريعة الوقع في القصة غامضة مجتهدة ، وذات علاقات معقدة .
طرح آخر أشارت له الكاتبة عن أسرار العلاقات بين الازواج وما يحدث تحت سقف الزواج بالإكراه ، في حين يبدو عشق الأبناء حد فاصل تستمر معه البيوت قائمة . أزواج على الهامش ، البعض يستحق العقاب بشكل ما .
فأبو جابر عليه أن ينفذ وصية مجبر عليها .
وأبو شهيب يعاني من شكوكه ، مرضه وركونه الى الصمت .
قصة مزدحمة بالشخوص ،وتعدد النفسيات والمساعي
رغبات وامنيات حقائق مخفية وترقب .
جمعت الكاتبة كل ذلك بتسلسل وختمت القصة بعبارة أحد من السيف شافية للغليل عن زوجة كارهة لشريكها
_لم أخُنّكَ أبداً ، لكني كنت أستمتع بكل الشكوك التي كانت تراودك عني ، لأعيش دور العاهرة التي في خيالك
هنا تعلن الكاتبة موت العاطفة ولكل أحد منهم موت يخصه .
إن للكاتبة قدرة محببة ، على إنهاء كل نص بقفلة صادمة ، كأنك تشاهد حدثاً مثيراً وينتهي بما لا تتوقع .
في قصة “واشتعلَ الجسد بالإثم” تأخذ الكاتبة منحى آخر في سرد التفاصيل بلغة رشيقة ، مليئة بالوصف أقرب لسرد نثري ، الكثير من المشاعر الجوانية والتساؤلات الحائرة ما بين الخوف والبحث عن الحقيقة والتي تعود من ذاكرة طفلة الى عقل شابة تُفّجَعُ بما حدث !
الموت هنا صادم لا يرحم وهو يغرس أسنانه في العقل المنهك ويكشف الستار عمَّ غاب .
ولنا وقفة مع قصة “عروس البنفسج”
عروس البنفسج رؤيا تامة لحاضر يقتحم المستقبل ، ويروي بعض تفاصيله المحتومة ، فيكون الهرب طوق نجاة لجثةٍ قد تثّبُتُ أحزانها لو قبلت بالواقع المرير .
يتبدل هنا خط سير الكتابة ، ويخرج عن المألوف لدينا لأن النهايات حزينة لدرجة البكاء .
فنحن هرعنا مع عروس البنفسج ، رافضين موتها ، واخترنا الهرب معها كي تحيا وإن أثار ذلك سخط من حولها .
وبما أن الكاتبة اختارت بعض المقتطفات كمنصة عبور للنص راق لي أن أُ هديها إحدى عباراتي الخاصة والتي بدا أنها مناسبة للنص :
“للبنفسج أن يرتدي أوجاعه ، ويكتفي بها كطقس للرحيل ” (حنان باشا)
“للموت أسنان صفراء” القصة التي حملت إسم المجموعة قدمت لنا شخصية فذة لسيدة قادرة على إدارة من حولها ..
زوج ، ابناء ، أحفاد وحتى الأقارب .
شخصية ليست ببعيدة أو غريبة ، فلا شك أننا سمعنا يوماً عن حماة أو أُّم جبارة بيدها كل مقاليد السلطة ولها صولجان تشير به فيتم تنفيذ رغباتها وإن عارضت رغبات الآخرين .
وقد تكون مخيفة أكثر إذا ما ورَّثت صفاتها وملامحها لحفيدتها .
هنا يسخر الموت من جميع الشخوص في القصة ، فهو يرفع يده عمن يستعدون له ، ويتخلى عنهم ويأخذ الجدة دون تردد كأنه يُقيلها من منصبها ، على أتفه سبب ليبقى مقعدها خالياً لتحتله الحفيدة المعارِضة دائماً ، ينتهي عهد ويبدأ آخر !
تنتهي المجموعة بقصة “دموع الزيتون” التي تبدأ برحلة مهاجر من زمن بعيد جداً _ العهد العثماني_ وتمتد الحكاية من اسطنبول الى عيبال .
أجواء تختلف شيء يشبه الخراريف ، سرد سريع عن زمن القرى النضال المسلح وسيرة الشهداء عالم الجن والتمائم ، الاعتكاف في الكهوف بغية التأمل او التخفي عن العدو المحتل .
نشم رائحة الارض ، الزيتون ، الحب العذري .
وقد أشارت الكاتبة الى قضية الزواج من القاصرات والتعدد كما زرعت تحت جذور الزيتون حكايا النضال و حب الوطن والخلود .
ظلت الكاتبة (تبارك الياسين ) بعيدة عن قصصها لكنك في قصة للموت أسنان صفراء ودموع الزيتون
تستشعر روح الجدة والجد ، التعلق والحب ، لكأن روحها تغلغلت في النص وهي المحبة لجديها وقد بان ذلك في إهدائها احد النصوص لجدتها .
في النهاية يمكننا قول أنَّ مجموعة (للموت أسنانٌ صفراء ) القصصية توثق لنا كيف أن للموت أشكالٌ متعددة ، فهو قد يأتي على شكل رصاصات في القلب
او الموت هلعاً ، الموت جشعاً ، الموت ندماً ، ضجراً واختناقاً او حتى صدفة ..
لكنَّهُ في النهاية يظلُّ موتاً .
(للموت أسنانٌ صفراء )
مجموعة قصصية صادرة عن دار جفرا ناشرون و موزعون 2022
للكاتبة (تبارك الياسين) .
قراءة حسِّية :
الكاتبة : (حنان باشا )
عضو رابطة الكتاب الأردنيين.