مع تزايد الرهان على احتمال الإعلان عن اتفاق في لبنان بين المقاومة الاسلامية واسرائيل ، لا بد من قراءة موضوعية للواقع القائم على النحو التالي:
اولا: الاطار العام للاتفاق:
يبدو ان القاعدة التي تتكئ عليها المفاوضات الحالية هي العودة الى قرار 1701 الذي جرت صياغته بعد حرب 2006، والذي تم الاتفاق عليه بين الطرفين ، لكن الواقع القائم بعد عام 2006 لا يشير الى أي تنفيذ له ، فالحديث عن “العودة” الى اتفاق 1701 لا يتم لو كان الاتفاق مطبقا ، فبعد 18 سنة من الاتفاق ، فإن اسرائيل لم تنسحب من الاراضي اللبنانية التي حددها الاتفاق بانها حدود 1949( ما تزال اسرائيل تحتل قرية الغجر ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا، ومجموع هذه المساحة تفوق 250 كيلومتر مربع اي ما يعادل مساحة تصل حوالي ثلثي قطاع غزة)( الفقرة الثانية من القرار) ولم تلتزم اسرائيل بعدم انتهاك الحدود البرية والجوية والبحرية اللبنانية، فهي تخترق هذه الحدود بشكل شبه يومي ( الفقرة الخامسة من القرار) وتدل المعطيات اللبنانية ان اسرائيل خرقت الاجواء اللبنانية من 2006 الى ما قبل طوفان الاقصى حوالي اكثر من واحد وعشرين الف مرة حسب عدد كبير من المصادر العربية والغربية والاممية ، من ناحية اخرى ،لم ينسحب حزب الله من الجنوب بل زاد قوته وتسليحه في هذه المنطقة ، بل تزايد عديد قواته جنوب الليطاني ناهيك عن عدم نزع سلاحه بل تزايد عددا وعدة (الفقرة 8 من القرار).
ماذا يعني ذلك؟ انه يعني احياء اتفاق لم يطبق اصلا في بنوده الاساسية. وهو ما يستدعي التساؤل التالي: ما هو الضمان لتنفيذ الطرفين لاتفاق لم يلتزموا به أصلا؟ بل ان ظروف عدم الالتزام اصبحت أكثر مساحة من المرة السابقة، مع الاخذ في الاعتبار ان نسبة الثقة المتبادلة بين الطرفين (محور المقاومة واسرائيل) هي دون الصفر، مما يجعل التأويل السلبي لاي طرف من الطرفين هو السائد لدى الطرف المقابل.
ثانيا: إذا صح ما تواتر من اخبار بان الاتفاق يحدد مدة زمنية هي شهرين او اقل من ذلك حسب بعض المصادر، فهذا ليس اتفاقا بل ” هدنة” ، والقرار 1701 ينص على الوقف الفوري والتام بدون تحديد سقف زمني وليس الى هدنه، ويفرق القانون الدولي بين عدة مفاهيم (وقف اطلاق النار-Ceasefire والوقف المؤقت -Truce والوقف الشامل كخطوة لانهاء الصراع Armistic )، وهو امر قد يكون موضع التباسات تفتح الباب امام تأويلات متباينة.
ثالثا: ظروف طرفي الصراع:
أ- حزب الله: من الملاحظ ان ادبيات وخطابات وتصريحات الحزب والتي تكرر الالتزام بوصايا السيد نصر الله تتجنب اية اشارة لاشتراطه ” ربط وقف القتال في غزة بوقفه في لبنان”، ولا جدال في ان ضغوط خصوم الحزب في الداخل اللبناني –وهم قطاع ليس بالهين- يعملون في اتجاه عدم الربط بين الامرين، كما أن ضغوط الضربات الاسرائيلية والتي حققت نجاحات في بعض الجوانب بخاصة تصفية شريحة مركزية من قيادات الصف الاول شكلت فراغا يحتاج وقتا لترميمه ، ولعل ضغوط المدنيين والتهجير في دولة تعاني حتى قبل الحرب وضعا اقتصاديا كئيبا يمثل ضغطا لا يمكن تجاهله، ويبدو أن تصريحات أسامة حمدان حول تفهم المقاومة في غزة لأي اتفاق في لبنان يشير إلى محاولة امتصاص بعض تأثيرات وقع الاتفاق على جمهور المحور ليبدو وكأن الأمر يعكس موقف المحور ولا يشير لقرار انفرادي.
ولكن من زاوية مقابلة ، فان الوقف المنفرد للقتال دون توافق مع بقية اطراف المحور يثير تساؤلا: هل تم التنسيق مع بقية المحور ؟وكيف يتم التوفيق بين موقف حزب الله الذي يغض الطرف عن اية اشارة لغزة في فترة التفاوض –على الاقل في أدبيات التفاوض الحالية الجارية- وبين اقوال قيادات انصار الله والحشد الشعبي حول الترابط الوثيق بين غزة وجبهاتهم ، كما تلتزم ايران باشارات قابلة للتاويل في اكثر من اتجاه في موضوع الربط بين غزة ولبنان او موضوع وحدة الساحات؟
ب- من الواضح ان اسرائيل في مأزق لا يقل حرجا عن مأزق حزب الله، فهي عاجزة عن تحقيق اية مكاسب استراتيجية على الجبهة اللبنانية ، الى جانب عجزها عن وقف الهجمات التي طالت مراكز ثقلها العسكرية والمدنية ، وتهجير مئات الألاف والذي يتسبب في شلل اقتصادي يتضح في هروب 62% من الاستثمارات الاجنبية، وتزايد البطالة، وتوقف التجارة البحرية بمعدل حوالي 33% ناهيك عن الضغوط الناتجة عن الخلافات الواضحة بين وداخل المستويات العسكرية والسياسية الى جانب التصدع الذي يصيب خزان الاحتياطي البشري للجيش والتشققات في جدران المجتمع بين الهويات الفرعية، ثم ازداد الطين بلة مع ثقل قرارات المحكمة الجنائية وقبلها قرارات محكمة العدل الدولية، وصورة اسرائيل لدى الراي العام الدولي، وهو ما جعل وعود نيتنياهو بالنصر المطلق اقرب “للثرثرة”.
رابعا: المأزق:
يبدو ان كل طرف من طرفي الصراع (واستنادا لحساباتهما الداخلية والاقليمية والدولية) يراهن على تحميل الطرف الآخر فشل التوصل الى اتفاق ، أو إذا توصلا الى اتفاق تحميل الطرف الآخر مسؤولية الفشل في الالتزام بتنفيذ الاتفاق ، والشيطان يكمن في التفاصيل..وهو درس يتكرر باستمرار في كل الاتفاقيات التي تمت في الشرق الاوسط.
ويبدو ان مرحلة ترامب بعد حوالي شهر قد تعزز ما يتم التوصل له ،وقد تفتح ابوابات جديدة للخلاف بخاصة بعد تصاعد الخلاف بين ايران ووكالة الطاقة الدولية حول مدى الالتزام الايراني ، ثم رد ايران بتصعيد سياساتها في هذا الاتجاه وصولا الى احتمال تغيير عقيدتها النووية كما هدد كمال خرازي.
الخلاصة:
سواء تم الاتفاق او لم يتم، فما على المنطقة الا الاستعداد لجولات صراع جديدة، فمنطقتنا تتوفر فيها كل عوامل تجديد التفجير، فاسرائيل تريد تفريغ فلسطين من اهلها لان هذا هو المخرج الوحيد لها بخاصة م تنامي ثقل اليمين الديني في هيئات صنع القرار الاسرائيلي، فالحزب الذي وقع أوسلو ليس له الآن الا أربعة مقاعد من بين 120 مقعدا، ولعل نشر الخرائط والحديث عن عام 2025 لضم الضفة الغربية والحديث عن تفريغ غزة …الخ يؤكد هذا التوجه، ناهيك عن ان البيئة العربية بدت غير معنية بما يجري الا في حدود الشجب العلني والتآمر السري، ويتغذى كل ذلك على عدم استقرار سياسي جعل منطقتنا تقف على راس الاقاليم التسعة في العالم من حيث درجة عدم الاستقرار وبنسبة تصل الى ضعف النسبة العالمية، وإذا عاد ترامب لسياسات رئاسته الاولى ، سيتسع الموقد ويزداد المشهد قتامة، وكثيرا ما كان افتعال الصراعات الخارجية مخرجا لامتصاص الاحتقانات الداخلية.