انتشار الرواية لايعني أن الثقافة العربية بخير بل دلالة على أنها تحولت لسلعة
الراوي خالق لعالم أراد هندسته كما يشاء
الرواية العربية في عصرنا الحالي أصبحت موضة
حاورته لطيفة حسيب القاضي
مددت يدين مرتعشتين إلى الحائط، بعد أن جففت بهما قلقي وسكن داخلي، فأخرجت أوراق الأسئلة التي أرسلتها للروائي سعيد الصالحي.
كانت رطوبة خفيفة، أخذت تسري في عروق الورق، وعروق الإجابات التي كتبها الصالحي، فقلت يجب نشرها.
إلى أن التقطت عيناي، عبارة كأنما ارادها سعيد عنوانا لروايته الأولى ” ظل الغراب” وتابعت تحت هذا العنوان اللافت:
(توثقت علاقتي مع الوسادة، وتحولت الهدنة التي بيننا إلى معاهدة سلام دائمة).
وتساءلت ما هو الظل؟ تُرى هو ذات الذي قال عنه ابن عربي: أن النهار ظل الليل فتشبت بمقولته
ومن هو القائل، أن الليل شمعة النهار؟ فتشبت بها هي الأخرى. على ما بينهما ، أجاب الروائي سعيد الصالحي، وقبل أن أغادر مقدمة اللقاء لا بد من القول وليس هناك في الليل إلاّ الظلال المتطاولة على الكلمات داخل النفس التي تبحث عن مخرج ما، لعل إجابات كاتب ظل الغراب انعكاسات لنفسي المرتعشة.
1- ما هو الخطاب الروائي؟
الخطاب الروائي هو الوسيلة التي تُنقل بها الأفكار والأحداث من الروائي إلى القارئ. يتجاوز الخطاب الروائي كونه مجرد تسلسل سردي للأحداث ليصبح إطارًا يعبر عن رؤية الراوي لموضوع الرواية، وكذلك عن الصراعات البشرية في الحياة، وعن العلاقات بين الشخصيات وتفاعلها في زمان ومكان الرواية. الخطاب الروائي في المقام الأول هو فن يوازن بين الذاتية والموضوعية، ويتيح للقارئ الدخول في عوالم جديدة تثير التفكير، وأحيانا تتلاعب بالمشاعر، وتسعى نحو التغيير.
2 ما رأيك بالواقع الان في الرواية، هل الرواية طغت على الشعر؟
في الواقع لم تطغ الرواية بالقدر الذي خبى به الشعر في العقدين الأخيرين، فالشعر في العالم العربي يعاني ولن أقول يحتضر، فمنذ رحيل أساطين الشعراء لم يبرز من الشعراء إلا عدد محدود أستطيع أن أعدهم على أصابع يدي اليسرى، والأسباب كثيرة في رأيي ولكن أهم سبب هو تحول المجتمعات العربية نحو الثقافة الاستهلاكية حتى في مواضيع الأدب والشعر، وهذه الثقافة الاستهلاكية أيضا أسهمت في انتشار الرواية بوصفها موضة جديدة ومستحدثة في العالم العربي، وأنا ممن يجزمون أن انتشار الأعداد الهائلة من الروايات العربية لا يعني بالضرورة أن الثقافة العربية تعيش عصرا مزدهرا، بل هي على النقيض تماما تعيش حالة من الفوضى والتخبط، كما هو حال الانسان العربي الذي بات كمن يرقص في العتمة تارة من الألم وفي احيان كثيرة يرقص خائفا مترددا مرتعشا وقد تفرقت به السبل، وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بوصلته ودليله، وللأسف فإن واقع الشعر وحال الرواية هما امتداد لصورة هذا الانسان العربي الذي يمتلك كل المقومات للنجاح ولكنه لا يمتلك نفسه، فهو غير مؤمن بذاته ولم يعد مصدقا بأن الجغرافيا التي تضمه اليوم لم تعد أمه، ولم تحمل هذه الأم يوما بالمتنبي وجرير أو محمد شكري وتوفيق زياد.
3- هل الراوي في الرواية مجرد شاهد؟
الراوي ليس مجرد شاهد، بل هو عنصر ديناميكي يملك دورًا معقدًا يتراوح بين السرد، التوجيه، والتفسير. قد يكون الشاهد في بعض الأحيان، ولكنه غالبًا ما يكون خالقًا للعالم الروائي، وصانعًا لزوايا الرؤية. في روايتي “ظل الغراب”، لم يكن الراوي مجرد ناقل، بل كان جزءا من النسيج السردي الذي يشارك القارئ أفكاره، هواجسه، وأحيانا تطرفه حول بعض المسائل.
4- هل يمكن أن تُركِّز الرواية على الجوانب الشكلية (التقنية والأسلوبية) لدرجة أنها تتجاهل أو تُهمِّش القضايا الثقافية؟
لا ينبغي أن تطغى الجوانب الشكلية على مضمون الرواية الثقافي والاجتماعي. الشكل أو الأسلوب في الرواية هو أداة تساعد على إيصال الرسالة الثقافية بطريقة ممتعة ومبتكرة. إذا ركز الكاتب بشكل مفرط على الحيل الفنية والتقنيات دون أن يمنح المضمون الثقافي والاجتماعي الاهتمام الكافي، ستفقد الرواية جزءًا من أهميتها.
الرواية الناجحة هي تلك التي توازن بين الشكل والمضمون؛ حيث يخدم الشكل فكرة الرواية ولا يطغى عليها. في “ظل الغراب”، على سبيل المثال، الشكل السردي ساعد في إيصال قصة تحمل بعدًا إنسانيًا وثقافيًا وفكريا وبيئيا، ولم يكن مجرد عرض للتقنيات الأدبية واستعراض بها.
5- روايتك الأولى (ظل الغراب) ،بعض الشخصيات في روايتك ذات بُعد رمزي. كيف تختار الرموز التي تستخدمها،ماذا يمكن أن تقول عن هذه التجربة، وما رسالتك التي تود إيصالها للقراء من خلال الرواية؟
عديدة هي تلك الأفكار التي وددت مشاركتها مع القارئ من خلال الرواية، وانا لا أحبذ كلمة رسالة في العمل الأدبي، فالعمل الادبي وخصوصا في الرواية هو عالم افتراضي يصنعه الراوي ويدخله القارئ بمحض إرادته ويغادره بحركة من يده وقت يشاء، لذلك يجب أن يكون هذا العالم مغريا للقارئ حتى يعيش فيه لساعات وأيام، وأنا كانسان بسيط لا يخرجني من عالمي إلا الرسائل لذلك اتجنبها دائما عندما أكتب، واستعيض عنها بالأفكار التي تنتج عن تفاعل الشخصيات مع بعضها أو من خلال حركاتها وسكناتها في فضاء المكان، في رواية ظل الغراب كان لكل شخصية صندوقا صغيرا يحمل الكثير من الاسرار، وقد حرص كل أشخاص الرواية على عدم كشف صناديقهم وعلى عدم البوح بأسرارهم لأحد، كان التوجس من النفس جليا أكثر من التوجس والقلق من الآخرين، وكان ينتج عنه ردات فعل ومواقف أضافت للرواية بعدها الواقعي والقريب جدا من تصديقه باعتباره حقيقة، ولكن وفي لحظة ما أفشت معظم الشخصيات جزءا من اسرارها للحصول على سر من الآخرين، لم تكن الشخصيات الآدمية ذات طابع رمزي بقدر ما كانت تحمل من صفات الإنسان وأخلاقياته، أما الرموز فكان سيدها الغراب، ولم تخل الأماكن والأشياء من الرمزية هي الأخرى، في رواية ظل الغراب تبدو الأمور واضحة ثم يغشاها الضباب، وتكون الأحداث هادئة ثم يأتي الضجيج على غير موعد، في رواية ظل الغراب احتجت لسترة نجاة أكثر من مرة وأنا أكتب في سطورها.
6- بعض الروائيين العرب يمارسون تقنية الأدلجة مع التخيل في نصوصهم، كيف تعلق على هذه المقولة؟
إن كنت تعنين بالأدلجة استخدام كلمات الرواية وعناصرها المختلفة لتوضيح فكر معين من خلال حركة الشخوص في إطار زمني ومكاني محدد، فالرواية في الأساس خلقت من أجل ذلك، لأنها وليدة الفكر الغربي وصنيعته، هذا الفكر الذي تبلور وما زال يتبلور جراء تفاعل المجتمع الغربي مع مختلف الأفكار والمعتقدات، والروائي العربي قد تأثر هو الآخر بالرواية الغربية ونهل منها، وقام بدوره بإدخال الايدولوجيات المختلفة إلى روايته تارة كمحايد وتارة مؤيد أو معارض، والشواهد كثيرة وغنية في الرواية العربية، أما إن كنت تقصد بالأدلجة التبشير والترويج لفكر معين من خلال الرواية، فأنا كقارئ لن أقوى على قراءة هذا النوع من الروايات لأنني اعتبرها بيان أيدولوجي خائب يستهدف محدودي الثقافة لبث الوهم أو التعاطف مع هذه الايدولوجيا عن طريق التلاعب بالشخصيات أو الأماكن والأزمنة فنتعاطف مع هذه الايدولوجيا لاننا احببنا الشخص أو المكان ونعزف عن ايدولوجية أخرى لاننا لم نستسغ شخصا ما أو حدث ما في مكان ما في الرواية، فشتان من بين أدلجة النص والتبشير من خلاله.
7- هل صحيح أن المؤرخ الجيد هو الروائي؟
إلى حد ما، نعم. الرواية تعيد بناء التاريخ بلمسة إنسانية، تكشف التفاصيل التي يغفلها المؤرخون التقليديون. فالرواية تكتب تاريخ من لا يعنى التاريخ بكتابة اسمائهم في سجلاته، لكن الروائي يختلف عن المؤرخ في أنه لا يلتزم بالحقائق فقط إن كان هناك حقائق في التاريخ؛ بل يستخدم الأحداث التاريخية كأرضية لخلق عالم سردي حي، وأغلب الأعمال التلفزيونية الناجحة في الفترة الأخيرة تعتمد على أحداث تاريخية موثقة وتدور الأحداث في فلكها من قبل شخصيات جديدة لم نسمع عنها من قبل وبحبكة جديدة تتماشى مع الأحداث الموثقة والمعروفة.
8- هل كانت روايتك ظل الغراب تعليقا أو سناريو فقط عن الحياة التي عشتها في بنغلادش؟
بالطبع لم تكن كذلك، فلو أردتها تأريخا لتلك التجربة لكتبتها في دفتر مذكرات، بل هي كانت تمردا على تلك الأيام والساعات التي قضيتها غريبا في أكثر أيام العالم غرابة وإن شئت سخرية، فرواية ظل الغراب بالنسبة لي كانت تنبش الماضي لتخرج منه نظريات ومعتقدات ما زالت تتواتر عبر قرون ويا ليتنا تواترناها وحسب بل ما زلنا نطورها وننقلها نحو المستقبل مغلفة بكفن القداسة والتعظيم، في رواية ظل الغراب لكل كائن مسؤولية ودور في هذه الحياة، من الانسان الى الشجر والطير والحجر، جميع هذه الكائنات تتفاعل في المكان والزمان الذي قدر لها، وكاننا نعيش جميعا في رواية كبيرة لكل كائن فيها حكايته الخاصة ولكل حكاية نهاية، في رواية ظل الغراب تقفز الاحلام من خلف الوسائد لتزاحم الواقع الذي قرر أن يكون صعبا دائما، فالأحلام الصغيرة التي كانت تتناثر في الرواية لم تكن حكرا على الانسان فلكل كائن حلم صغير يشبه الروح، فلولا احلامنا الصغيرة لأصبحت الحياة كالهواء الصلب، في رواية ظل الغراب لم يتوقف البحث ولم تنته المطاردة ولم ينتصر اليأس، رواية ظل الغراب لم تكن إلا ظلا لكل مخاوفنا التي علينا أن نتحلى بالشجاعة والمحبة حتى تصبح هي ظلا لنا.
9- هل حاولت رواية (ظل الغراب )التحرر من الرواي ذي الصوت الأحادي؟.
في رواية ظل الغراب كان الراوي هو بطل الرواية، ولكن صوته لم يكن الأعلى في الرواية، كان صوته منسجما مع الحدث، ففي بداية الرواية كان الزمن هو السيد المتحكم، هذا الزمن الجديد الغريب، زمن الكورونا بكل مستجداته، وبعد أن يتقبل القارئ الزمن وأحكامه تطل عليه شرفة الراوي وغرابها فيعلو صوتهما فوق صوت الراوي ويتصدرا المشهد، وعندما تتدافع الأحدات لا صوت في الرواية يعلو فوق صوت بدر الخير وابن الداسم، والراوي كان حاضرا دائما لم يغب إلا في مشاهد بسيطة، ولكن في النهاية فتح الراوي ذراعيه وحلق في سماء الراوية ونعب كما تنعب الغربان عندما فاز وانتصر، في رواية ظل الغراب لم يكن الراوي بطلا مطلقا منذ اللحظة الأولى، بل أصبح بطلا عندما صعد وهبط وهاجم ودافع وعندما عرج فوق أسوار اليأس ونزع من داخله كل تلك الأشياء التي لا تنتمي لعالمه.
10- هل لديك مشاريع أدبية قادمة؟ وما الذي تنوي تقديمه للقارئ من أفكار وأساليب جديدة؟
بالتأكيد هناك مشروع جديد أعمل عليه منذ مدة ليست بالقصيرة، فأنا متعلق بحركة التاريخ وأهوى البحث في خلفيات المذاهب الدينية والفكرية وتفاصيلها وكذلك أرتبط حد التطرف بكل ما هو عربي فالرواية جديدة مزيج من كل هذه الأشياء ولكن بطريقة لا تخلو من التشويق والحركة المتواصلة من خلال شخصيات تشبهنا ولا نفهمها وأماكن نراها كل يوم ولا نعرفها وأحداث تمر أمامنا لنكتشف فيما بعد أننا كنا نرى ما يقوله الآخرون لا ما حدث بالفعل.
أتمنى أن أتمكن من طرح هذا المشروع خلال النصف الأول من العام القادم.