بدأت جذور النزاع الهندي الباكستاني، منذ انسحاب الاستعمار البريطاني من شبه القارة الهندية، تاركا خلفه إرثا سياسيا معقدا يتمثل في مئات “الولايات الأميرية”، خاصة كشمير؛ فإستثنائيها بكل المعايير لم تتيح لها فرصة الإنضمام الإختياري الهادئ لإحدى البلدين كبقية الأراضي.
التركيبة الديموغرافية المتفجرة لكشمير، ذات الغالبية المسلمة والحاكم الهندوسي، فتحت صراع لم تتمكن القرون من طي صفحاته، اندلع الإشتباك الأول، بعد ما بدأت القبائل المسلحة بدعم باكستاني تهاجم كشمير بهدف إلحاقها بالباكستان، لكن الهند أوقفت الاستجابة لإستغاثة حاكم كشمير مشترطة توقيعه اتفاقية ضم الإقليم إليها، الذي تم بالفعل مما أدى إلى دخول القوات الهندية لكشمير، لتبدأ أولى الحروب الحقيقية بين البلدين.
رغم إنتهاء الحرب بتقسيم الإقليم إلى منطقتين، إلا إنهما لا تزالا متنازع عليهما حتى يومنا هذا؛ فمن جهة تزعم باكستان بأحقيتها الكاملة نظرا إلى أن أغلب سكانه مسلمين الديانة، وبين حجة الهند بأن الإقليم جزء قانوني منها بموجب وثيقة الانضمام، بالوقت الذي ينقسم فيه أيضا سكان كشمير بين من يفضلون الانضمام إلى باكستان، ومن يميلون إلى الهند، إلا أن هناك من يحلمون بالاستقلال عن البلدين.
بعد مرور ما يقارب السبعة عقود على هذا النزاع المستمر، دخل اليوم في مرحلة أكثر خطورة وتعقيدا؛ فقد تصاعدت الاشتباكات عبر “خط الهدنة”، وسط اتهامات متبادلة بدعم ميليشيات وحركات انفصالية، لتبرز على السطح جبهتان جديدتان تحملان أبعاد إستراتيجية أعمق، المياه فوق الأرض، والسيطرة البحرية تحتها.
في العلن، تتصاعد حرب المياه على إثر مخاوف باكستان من خنق ممنهج، على يد السدود الضخمة التي بنتها الهند على الأنهار الحيوية، التي التحكم بتدفق المياه إلى الأراضي الباكستانية، مما يهدد بضرب أمنها الغذائي، ودفع اقتصادها نحو الإنكماش، كما أنه يهدد استقرارها الداخلي، عبر موجات هجرة قسرية، متوقعة بفعل الجفاف.
الهند كانت قد بدأت بتنفيذ مشاريع صغيرة، لا تؤثر حقيقة على تدفق المياه للباكستان؛ كي لا تظهر بمظهر المخل علنا باتفاقية مياه السند، التي قضت بتقسيم الموارد المائية بين الطرفين، ثم ما لبثت أن صعدت ببناء السدود الضخمة، على الأنهار الغربية، والتي هي قانونيا بموجب الإتفاقية من حق الباكستان، مانحة نفسها سلطة كاملة وفعلية بقلب حياة باكستان رأسا على عقب، من خلال صنبور مياه.
أما في الخفاء، حيث ميناء جوادر الباكستاني، الذي استثمرت فيه الصين مليارات الدولارات؛ فهو حجر الزاوية في مشروع “الحزام والطريق”، وهو نقطة الارتكاز الإستراتيجية على خريطة التنافس الدولي، مما أثار قلق وذعر والهند من تطويق بحري صيني باكستاني على حدودها، ومن هنا تبدأ النفخة الأولى على شرارة الخلاف الحدودي.
حيث تقاطع إدراك الهند أنها باتت تواجه مشروع جيواستراتيجي ضخم يطوقها جنوبا وغربا، مع هواجس الولايات المتحدة الأمريكية من التمدد الصيني، ولا وجود لجدار حاجز يوقفه أفضل من الهند، وولد تحالف “الكواد” من رحم الخوف المشترك، في محاولة لاستباق الطوق الصيني قبل أن يكتمل، عبر تكتل بحري ضم الهند، الولايات المتحدة، استراليا واليابان.
بالموازاة مع هذا “الحوار الأمني الرباعي”، لكن بهدوء أكثر تحركت الهند لدعم تطوير ميناء “تشابهار الإيراني”، كذريعة هندية مقابلة لجوادر، وإن كان للوهلة الأولى، هناك تناقض بين هذا الدعم وبين تحالف “كواد”؛ لوجود ما يسمى بالعداء الأمريكي الإيراني، إلا أن الهند لم يكن يربطها مع أمريكا إلا تحالف من مطلق المصلحة الإستراتيجية ضد الصين، بعيدا عن أي ولاءات الأيديولوجية.
إضافة إلى ذلك، واشنطن التي تدرك تماما أن تصعيد الصين سيمنحها هيمنة بحرية تهدد التوازن الإقليمي والدولي، مما يحتم مواجهتها ولو عبر طهران، لم تعارض الهند في هذا الدعم، لا بل أنها أيضا منحت “تشابهار” إعفاء خاصا من العقوبات رغم العقوبات الصارمة على إيران، وإن كان التسبيب الظاهري ضرورات تجارية وإنسانية، إلا أن كبح تمدد التنين الصيني قبل أن يبتلع البحر، هو السبب الجوهري الحقيقي.
بدأت حدة هذا التراكم الهائل، من توترات السدود والموانئ، والماء العذب والمحيط المالح، من جهة “كواد” دخل مرحلة إعادة تقييم، الهند انشغلت بجبهاتها الداخلية وباكستان دخلت نفقا اقتصاديا ضاغطا، خاصة مع تراجع وتيرة السجال الحدودي عبر كشمير، لكنه الصين كانت تتحرك خلف الستار بحذر الساعاتي العتيق بينما “كواد” يلتقط أنفاسه.
في لحظة مفصلية، ظهر على السطح اتفاقية استراتيجية بين الصين والسعودية؛ لإستخراج “الكعكة الصفراء”، من قلب العُلا، لتبدأ جولة جديدة من هذا النزاع، لكن هذه المرة بقفزة نقلته من نزاع إقليمي إلى ميدان الطاقة النووية والتفوق الإستراتيجي العالمي، مما كان كفيلا بهز التوازنات الحساسة، إلا أن “كواد” بقي متجمدا كأن شيئا لم يحدث.
في السياسة، الصمت أمام تحركات بهذا الحجم، هو نتاج حسابات معقدة، خاصة أن الضربة وقعت في مكان لم يتوقعه أحد، مما يعني إعادة توزيع أوراق التحالف، وفتح خطوط خلفية بهندسة تكتيكية دقيقة، بمعنى أدق الصمت السياسي أمام هذه الضربات، هو كمين مؤجل.
على الصعيد الآخر، وبعيدا عن التكتيك المحسوب، كان هذا الصمت وخصوصا من أمريكا، يخفي صدمة المدرك متأخرا؛ فواشنطن وضعت وجها لوجه أمام القانون الذي حاولت المواربة عنه، وهو قانون الدورة المؤوية التاريخي، الذي حكم الأنماط الكبرى عبر التاريخ السياسي والاقتصادي بثبات لا يحيد.
رغم أن هذا القانون لم يكتب في دساتير الأنظمة العالمية والامبراطوريات، إلا أنه وحده من يحكم مصيرها؛ فهو حاضر في كل سقوط وصعود؛ قانون يسير فوق الرؤوس بثقل قرون، قائم على نظريتين مترابطتين تشكلان جوهر التحول العالمي، العمر الإفتراضي المقدر بقرن تقريبا، والهدم من أجل البناء.
فما إن إقتربت الأرض نحو دورة المئة عامة، حتى عادت لتكرر نمطها الدائري، والذي تعبر عنه الفلسفة السياسة، أن الأنظمة الجديدة لا تبنى فوق أرض مكتظة بمخلفات النظام القديم، إنما فوق ركامه، لذلك الهدم هو الطقس السري الذي يسبق دورة تاريخية كبرى؛ لأن الأرض لا تستطيع أن تحمل على ظهرها توازنات شاخت وتصدعت، فلا بد أن يسقط أحد اللاعبين الكبار، أو يتزحزح على الأقل، كي يفسح المجال للاعب جديدة.
في سياق متصل، تجلت ملامح الهرم على النظام الأمريكي العالمي، حيث الاقتصاد مترنح، المؤسسات الدولية فاقدة للثقة، أما صراعات فهي متفاقمة وعلى جميع الأصعدة، مقابل الصعود المتسارع للقوى الآسيوية، ومن هذه النقطة بالتحديد، تكتمل الصورة الكبيرة؛ فجميعها قطع إجبارية لدورة التاريخ الكبرى.
واشنطن، يدرك تماما أن مياه الكوكب بدأت تتحرك بعيدا عن شواطئ امريكا، والزمن يمضي بلا انتظار ولا التفات، بتسارع لا يمكن لأي سياسة تقليدية أن تحتويه، وهذا ما يفسر التخبطات، القرارات المرتبكة، التهديدات المتناقضة والتحولات المفاجئة تجاه أعداء الأمس، في محاولة لرأب الصدع، بأساليب مباشرة وأخرى ملتوية.
أما ترامب، فيبدو كالغريزة المتحفزة التي تحاول قهر التاريخ بوسائلها الخاصة، خطابات صاخبة، انسحابات أحادية هناك، إغراءات مباشرة لبعض الخصوم، محاولات تغير القواعد عبر الصدمة المباشرة تهيئات مقعد بصك سماوي، جميعها بعين السياسة محاولات مستميتة لخرق جدار الزمن، لكن هيهات للقبطان أن ينقذ سفينته في اللحظة الحرجة، محكومة بخط زمن ثابت مهما بلغ من ذكاء غريزي ودهاء لا يمكن إنكاره.
وبينما كانت الإدارة الامريكية، تراهن على تكتيكات جزئية، لإطالة عمر هيمنتها المنهكة، حققت الصين قفزات نوعية في مواقع النفوذ، وأسست تحالفات استراتيجية أعادت تشكيل موازين آسيا بهدو القائد الواثق من مقعده، دقت الأرض ناقوس الخطر، وفتح بوابات الفوضى المنظمة؛ لأن الظروف الدولية وصلت لمرحلة تفرض إعادة توزيع القوة والنفوذ.
واليوم، وفي ظل إستكمال مؤشرات نهاية “دورة المئة عام”، وتواجد القوتين المتصارعتين على من يرث القرن الواحد والعشرين كحلفاء رئيسيين في حرب كشمير، لا يمكن قراءة حرب كشمير على أنها مجرد نزاع حدودي؛ على الرغم من أن جمرها كان دوما تحت الرماد ولم ينطفئ يوما، إلا أن هناك من نفخ عليه عن وعي وإدراك أي بيت يريده أن يحترق.