ما هي الأسباب الستة التي تُرجّح هذه “النبوءة” الأمريكية المُفاجئة؟
عبد الباري عطوان
فجّر ماركو روبيو وزير الخارجية الأمريكي قنبلة من الوزن الثقيل عندما حذّر أمام جلسة استماع في مجلس الشيوخ الامريكي السلطة التشريعية الأعلى في بلاده، “من أن سورية الجديدة على شفا حرب أهلية ذات ابعاد مدمرة”، وأضاف “ان التقييمات الاستخبارية الامريكية تؤكد ان السلطة الانتقالية، وبصراحة، قد تكون وعلى ضوء التحديات التي تواجهها على بعد أسابيع وليس اشهرا، من إنهيار محتمل وحرب أهلية شاملة، ذات أبعاد مدمرة تؤدي فعليا الى تقسيم البلاد”.
هذه “الشهادة” التقييمية، أمام مجلس الشيوخ، ومن قبل وزير مثل روبيو الذي يعتبر من أكثر المقربين إلى الرئيس دونالد ترامب، يجب أخذها بالكثير من الجدية، لأنه يُعتبر بحكم منصبه، من الأشخاص القلائل الذين يطلّعون على تقارير أجهزة الاستخبارات الامريكية التي يزيد عددها عن 17 جهازا، وتتضمن معلومات دقيقة يجمعها عملاء، ويحللها خبراء، من مختلف انحاء العالم، مع تركيز خاص على منطقة الشرق الأوسط.
التصريحات التي أدلى بها قبل يومين روبرت فورد السفير الأمريكي السابق و”الأب الروحي” لما يسمى بالثورة السورية التي انطلقت في إطار “الربيع العربي” عام 2011، واعترف فيها أنه التقى الرئيس المؤقت أحمد الشرع في إدلب في آذار (مارس) 2023 بتكليف من حكومته، ومنظمة بريطانية متخصصة في حل النزاعات، لإعادة تأهيله، ونقله من عالم الإرهاب وادخاله الى عالم السياسة، ثم عاد والتقاه في القصر الجمهوري بعد إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، كاشفة بدقة لكل ما كان يطبخ لسورية في الغرف السوداء في لندن وواشنطن وأنقرة والقائمة تطول.
هذا الإعتراف يؤكد أن الولايات المتحدة وبريطانيا إلى جانب تركيا، هي التي وقفت، وما زالت، خلف عملية إيصال الشرع، وهيئة تحرير الشام التي يتزعمها الى الحكم في دمشق في إطار خطة محكمة شاركت فيها دول عربية بالدعمين المالي والإعلامي، وهذا ما يفسر عدم توجيه الإدارة السورية الجديدة أي انتقادات او ادانات، لدولة الاحتلال الإسرائيلي، او مقاومة احتلالها لمعظم الجنوب السوري، واقتراب قواتها من العاصمة دمشق، وتأكيدها منذ اليوم الاول لاستلامها السلطة على حرصها على إقامة علاقات طبيعية مع الكيان الإسرائيلي.
ثلاثة مصادر سورية ودولية أكدت لوكالة الأنباء العالمية “رويترز” مساء أمس الثلاثاء أن القيادة السورية برئاسة الشرع وافقت على تسليم وثائق ومتعلقات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي أُعدم في ساحة المرجة في آيار (مايو) عام 1965، في محاولة لتخفيف حدة التوتر، وإظهار حسن النوايا للرئيس الأمريكي ترامب، الذي التقى الرئيس الشرع في الرياض، واتخذ قرارا برفع العقوبات الاقتصادية عن سورية، واكد ان الإدارة السورية الجديدة وافقت على التطبيع مع إسرائيل.
إذا عدنا إلى تحذير الوزير روبيو الذي بدأنا فيه هذه المقالة، وخاصة الفقرة المتعلقة بأن البلاد على حافة حرب أهلية مدمرة، وتأكيده ان السلطة الانتقالية السورية على وشك الانهيار في غضون أسابيع وليس أشهرا، فإن النار “ملتهبة” تحت الرماد فعلا، بسبب التحديدات الضخمة التي تهدد وجودها.
الحرب الأهلية، أو الثورة المضادة، واردة وربما حتمية للنقاط الست التالية:
-
الأولى: فشل الإدارة الجديدة في تقديم نفسها، اقوالا وافعالا، كدولة ونظام يمثل الأغلبية الساحقة من السوريين وترسيخ مبدأ المساواة بين الجميع بعيدا عن كل التقسيمات الطائفية والعرقية.
-
الثانية: عدم قدرة هذه الإدارة الجديدة على توفير الحماية الأمنية لكل مواطنيها دون تفرقة، ولعل المجازر التي وقعت في مناطق الساحل الشمالي (العلويين) والجنوب السوري (الدروز) أحد الأدلة القاطعة في هذا الصدد.
-
الثالثة: وجود جماعات إسلامية متشددة، ومن جنسيات، يزيد تعدادها عن أكثر من 17 تنظيما، ومحاولة استيعابها في الجيش الرسمي السوري الجديد دون تخليها عن عقائدها المتطرفة جدا، والمعادلة لطوائف واعراق أخرى، وهذا قد ينقلب الى صداع مزمن، وصدام داخل اهل البيت الواحد لاحقا.
-
الرابعة: تجاهل وتهميش وعدم استيعاب النظام الجديد الحاكم في سورية لكل الحركات والجماعات السورية المعارضة التي انخرطت في “الثورة” الأولى عام 2011، مثل الجيش السوري الحر، والائتلاف الوطني السوري، وحركة الاخوان المسلمين، وابعادهم كليا عن “الشراكة” والمناصب القيادية بالتالي، مع الاعتراف بوجود استثناءات، ولكنها تظل محدودة وفردية.
-
الخامسة: المسارعة بالرضوخ للشروط الامريكية والضغوط الإسرائيلية، للانخراط في عملية التطبيع، والمشاركة في لقاءات مباشرة في باكو عاصمة اذربيجان، ونيويورك، وتركيا، بل وفي تل ابيب نفسها حسب تسريبات إعلامية شبه موثقة.
-
السادسة: توفير أرضية خصبة للثورة المضادة بحل الجيش السوري الذي لم يقاتل مطلقا دفاعا عن دمشق او تضامنا مع النظام السابق، وتسريح معظم عناصر الأجهزة الأمنية الذين يزيد تعدادهم هن 150 الفا على الاقل، وطرد ما يقرب من 200 الف من موظفي الدولة بذريعة ولائهم للنظام السابق، وهذا يعني ان مليون شخص تقريبا يواجهون البطالة، والجوع، وعدم الولاء، الامر الذي قد يؤدي الى اختيارهم الخندق الآخر ضد الدولة الحالية ثأرا وانتقاما.
ربما يجادل البعض “محقا” بأن عمر السلطة الجديدة لا يزيد عن ستة أشهر، ولم يتاح لها الوقت والظروف لبناء جيش قوي ومؤسسات راسخة للدولة، ولكن هذا ليس عذرا، والزمن سيف قاطع في علم السياسة، ومن المفترض ان هناك دولا غربية عظمى وإقليمية ثرية تدعم هذه السلطة.
سورية غابة سلاح، وفي جوار ساخن ومتفجر، ومعظم هؤلاء الذين جرى القذف بهم الى الشارع، لم يتخل عن سلاحه، ولا يحتاجون الى تدريب على حمله واستخدامه خاصة أولئك عناصر القوات العسكرية والأمنية، مضافا الى ذلك ان معظم هؤلاء تربوا في رحم العلمانية، والمبادئ العروبية القومية، وقيم التعايش والبعد عن التطرف الديني والعرقي، والايمان بأن اسرائيل هي العدو، وان تحرير فلسطين كاملة وعدم التطبيع معها عقيدة سورية تتقدم على كل العقائد الأخرى.
الوزير الأمريكي روبيو لا يمكن أن يطلق هذه التحذيرات، ويتنبأ بانهيار في غضون أسابيع للنظام السوري الجديد، لولا وجود معلومات موثقة لدية، ولحكومته عن وجود “مخطط” قوي لثورة مضادة ومسلحة بدأ ينضح بشكل متسارع، بقيادة جديدة، سواء في الداخل السوري، او في بعض دول الجوار، والتنفيذ لهذا المخطط ينتظر الضوء الأخطر، واطلاق الرصاصة أو الصاروخ الأول.. والأيام بيننا.
راي اليوم