الأردن.. هويةٌ راسخة وتنوعٌ يبني المستقبل.. كتب محسن الشوبكي

 

الأردن ليس مجرد أرض تُرسم حدودها على الخرائط، بل هو نسيج حيّ، تمتزج خيوطه بألوان التنوع المجتمعي، في لوحة تتناغم فيها التجارب والموروثات، ليظل صلبًا أمام رياح التحديات. فمنذ نشأته، كان هذا الوطن أشبه بنهرٍ واسع، كل من قصد ضفافه وجد فيه ملاذًا، وكل من جرت مياهه في عروقه أصبح جزءًا من مجراه، ليواصل الأردن سيره ثابتًا لا ينفصل عن امتداده التاريخي ولا يتوقف عن احتضان من لجأ إليه.

إن القيادة الهاشمية لم تكن مجرد راعية للدولة، بل كانت مهندسًا صبورًا، يعيد صقل الهوية الوطنية جيلاً بعد جيل، يوازن بين الخصوصيات المجتمعية ويصهرها في بوتقة الانتماء المشترك. فالمواطنة الأردنية لم تكن شعارًا يُرفع، بل تجربة تُعاش، أثبتت أن الأردني ليس من حمل بطاقة الهوية فحسب، بل من ساهم في بناء هذا الصرح، ومن آمن بأن الأردن لا يُبنى بتجزئة أبنائه، بل بوحدتهم.

التنوع المجتمعي لم يكن عبئًا على مسيرة التنمية، بل كان وقودها، كالأوتار التي يُشد بعضها ببعض ليُنتج لحنًا متماسكًا. ففي كل زاوية من هذا الوطن، هناك عقل يبدع، ويد تبني، وقلب يخفق بحب الأرض، ليجعل التنوع ليس مجرد حالة اجتماعية، بل مصدرًا للابتكار والتقدم. فالمؤسسات التعليمية، والمشاريع الاقتصادية، وحتى الخطاب الإعلامي، كلها تساهم في ترسيخ مفهوم الهوية الجامعة، حيث يكون الاختلاف حافزًا وليس عائقًا، والتعددية سببًا للارتقاء وليس للتباعد.

لقد كان الأردن عبر تاريخه ملاذًا للمهاجرين، يستقبلهم كما تستقبل الأرض المطر، فلا يُفرق بينهم، بل يندمجون في نسيجه الاجتماعي بانسيابية، كأنهم كانوا جزءًا منه منذ البداية. فلم تكن يد الأردنيين يدًا تُغلق أمام الغريب، بل كانت دائمًا يدًا تُمد، احتضانًا وانصهارًا، حتى أصبح القادمون إليه لا يشعرون أنهم في وطن جديد، بل وكأنهم عادوا إلى وطن وجدوه بقلوب أهله قبل أن يجدوه على الخرائط.

لكن هذا البناء المتماسك لا يخلو من التحديات، إذ تقف على ضفافه أصوات تحاول أن تشق النهر، أن تزرع الفرقة، أن تلعب على أوتار المشاعر لتجييش الناس في معارك الهوية التي لا يجب أن تُخاض. وهنا، لا بد من تعزيز الوعي الوطني، وترسيخ الحوار المسؤول، فالأردن ليس ساحة للانقسامات، بل بيتٌ كبيرٌ يتسع للجميع، ومن يعبث بأسس وحدته، كمن يحاول أن يقتلع جذوره، متناسيًا أن هذه الجذور هي التي حفظت للأردن صموده وسط العواصف.

المطالبة بالوحدة الوطنية اليوم ليست ترفًا فكريًا ولا تكتيكًا سياسيًا، بل ضرورة تمليها طبيعة المرحلة وتحدياتها. فقد أثبتت الاختراقات الإقليمية التي استهدفت دولًا عربية تعاني من تفكك مجتمعي أن الهوية الوطنية هي خط الدفاع الأول، وأن أي تراخٍ في تعزيزها يجعل الدولة عرضة لرياح التغيير غير المستقرة. الأردن، بثباته ووعيه، مدركٌ لهذه الحقيقة، ويعي أن الانتماء ليس مجرد شعور، بل حصنٌ يحمي من التدخلات التي تتربص بالمجتمعات غير المتماسكة.

والحوار حول الهوية الوطنية لا ينبغي أن يتحول إلى ساحة لتوزيع المكاسب، بل يجب أن يتركز حول آليات تعزيزها وتقويتها في وجه التحديات الإقليمية المتربصة بالأردن. فالهوية ليست صفقة، بل مشروع وطني يتطلب عملاً مستمرًا لترسيخها عبر التعليم، الإعلام، والجهود التنموية، بحيث لا تكون مجرد شعار يُرفع، بل واقع يُترجم إلى مواقف تحفظ الوطن وتصونه من أي هزات خارجية.

الأردن ليس بلدًا يبحث عن هوية، بل هوية راسخة تبحث عن تعزيزٍ دائم، عن بناءٍ يليق بتاريخها وامتدادها، عن صوتٍ يصدح بالانتماء دون أن يتردد. هذه الهوية لم تكن يومًا موضع شك، فقد نشأت مع نشأة الدولة، وتعمقت مع كل تحدٍّ واجهته، وازدادت ثباتًا مع كل مرحلة عبرها الوطن بإرادة أبنائه وإيمانهم بالمصير المشترك. الهوية الوطنية الأردنية ليست مجرد فكرة قابلة للتغيير وفق المتغيرات، بل هي جذور ضاربة في الأرض، كالسنديان الذي لا تهزه الرياح مهما اشتدت. وما يجب اليوم ليس إعادة تعريفها، بل تعزيز حضورها في وجدان الأجيال القادمة، حتى يبقى الأردن كما كان دائمًا: وطناً يصون أهله، ينهض بمكوناته، ويصنع مستقبله بإرادة من آمنوا بأن الوحدة قوة، وبأن الانتماء ليس شعارًا، بل فعلٌ يُترجم في العمل والبناء.

اليوم، يحتاج الأردن إلى صوت يعيد التأكيد على أن الوحدة هي البوصلة، وأن التنوع المجتمعي هو نبض القوة، وأن احتضان القادمين إليه لم يكن استثناءً، بل قاعدةً متأصلة في وجدانه، قوامها العدل والانتماء والإنسانية. فمن أراد أن يعرف سر صمود الأردن، فلينظر إلى تاريخه، إلى أيدي أهله وهي تبني، إلى قلوبهم وهي تحتضن، إلى أرضه وهي تجمع الجميع تحت راية واحدة، راية الوطن الذي لا ينكسر.