“نون للكتاب” في حضرة “تدريب على الغياب” للقاص طارق عودة

 

في مساء ثقافي دافئ من أمسيات عمّان، وتحديدًا في جبلها العتيق، احتضنت مكتبة عبد الحميد شومان يوم السبت الموافق 31 أيار 2025 الجلسة التاسعة والعشرين من جلسات مبادرة “نون للكتاب”، التي خُصِّصت لمناقشة المجموعة القصصية “تدريب على الغياب” للقاص طارق عودة، بحضور نخبة من الكتّاب والنقاد والمهتمين بالشأن الثقافي.

افتتحت الجلسة القاصة سمر السيد بتقديم المشاركين، لتمهد الطريق أمام الروائي مراد سارة الذي قدّم قراءة نقدية في نصوص المجموعة. وفي الفواصل الشعرية الشفيفة، صدح صوت الشاعر العراقي سعد يوسف بقصائد حملت حسًّا وجدانيًا عاليًا، فيما أدار الحوار والنقاش الناقد والكاتب أسيد الحوتري، الذي قاد الجلسة بحيوية واحتراف.

عتبات الغياب: عنوان ولون ومعنى

انطلقت المناقشات بثلاثة محاور رئيسية، أولها ما عُرف بـ”عتبات النص”. وقد أجمع الحاضرون على أن عنوان المجموعة “تدريب على الغياب” كان لافتًا وموفّقًا، لما ينطوي عليه من شاعرية ودلالة وجدانية تمسّ جوهر الإنسان في محنته الأزلية مع الفقد والانقطاع. الغياب هنا ليس مجرّد حدث، بل حالة وجودية تتطلب تدريبًا مستمرًا كي يحتملها القلب والعقل معًا.

أما لوحة الغلاف، بريشة الفنانة رنا حتاملة، فقد شكّلت مرآة بصرية لحالة الفقد، إذ جسّدت غياب المحب عن حبيبه، والعكس، في توازن تعبيري مؤثّر. وقد شكّل اللون الأخضر في اللوحة مفارقة جميلة، إذ أتى مخالفًا لما يتوقعه المتلقي من ألوان الحزن، وكأن الحياة تُصرّ على أن تنبت حتى في شقوق الغياب. كما توقّف الحاضرون عند الإهداء، والتنويه، وقصيدة محمود درويش في بداية المجموعة، ليتفقوا جميعًا على أنها رسّخت الثيمة المحورية: الغياب، وكرّست جنس الكتابة بوصفها قصصًا قصيرة جدًا.

القصة القصيرة جدًا: شروط الجنس وحدود الانتماء

في المحور الثاني، ناقش الحضور الخصائص الفنية للقصة القصيرة جدًا كما تجلت في نصوص “تدريب على الغياب”. وأشار المتداخلون إلى ثلاث سمات رئيسية لهذا الجنس الأدبي: الحكائية (بمعنى وجود قصة متكاملة العناصر)، والتكثيف (الاقتصاد اللغوي وحذف كل ما يمكن الاستغناء عنه دون الإخلال بالمعنى)، والمفارقة (كسر التوقع لدى المتلقي بما يُحدث المفاجأة أو الصدمة).

وقد نالت المجموعة نصيبها من هذه السمات، إذ التزمت كثير من القصص بتلك الخصائص، بينما اقتربت نصوص أخرى من جنس القصة القصيرة التقليدية، مما جعل الناقد مراد سارة يلمّح في مداخلته إلى أن بعض نصوص المجموعة لا تنتمي بالكامل إلى فن القصة القصيرة جدًا، رغم تصنيف المؤلف لها كذلك.

وفي تحليله الفني، أجرى سارة مقارنة بين نماذج مختارة من كبار كتّاب هذا الجنس الأدبي، ونصوص عودة، مسلطًا الضوء على أهمية التكثيف والدلالة المركّبة، دون الإخلال بالبعد الجمالي. كما أشار إلى جذور هذا الفن الممتدة في الشعر، بل وحتى في الرسوم الكاريكاتورية، بوصفها تكثيفًا بصريًا للفكرة.

الغياب: حكايات الألم الإنساني المتكرّر

أما المحور الثالث فكان استكشافًا لصور الغياب في المجموعة، وقد وقف النقاش على ثراء التناول وتعدّد زوايا الرؤية. فالغياب هنا ليس واحدًا، بل يتبدّى بأقنعة شتى. أبرز تلك الوجوه تمثّل في غياب الإنسان بالموت أو القتل، كما تجلّى في قصص: منزل، قبلاتي، الداية أم العبد، أمكنة.

لكن الغياب لم يكن محصورًا بالجسد وحده، بل طاول العقل والوعي، كما في قصة راحة. وبرز أيضًا في صورة انقطاع الوصل والهجران العاطفي، في قصص مثل مآرب وآخر رسالة. أما غياب العدالة والضمير والأخلاق والوازع الديني، فقد كان له حضور كثيف في مشهد المجموعة، حيث تحوّل الغياب من فعل إلى حالة بنيوية تعكس الانهيار القيمي في مجتمعاتنا المعاصرة.

في الختام: احتفاء بالكتاب والقرّاء

وفي ختام الجلسة، عبّر منظمو مبادرة “نون للكتاب” عن بالغ شكرهم وامتنانهم للمشاركين والحضور، وكذلك للمضيف الكريم: مكتبة عبد الحميد شومان، التي ما فتئت تحتضن مثل هذه الفعاليات الفكرية، تأكيدًا على دورها الثقافي والوطني في النهوض بالفعل القرائي النقدي، وترسيخ قيمة الأدب كنافذة لفهم الذات والآخر.

هكذا، لم تكن الجلسة مجرّد لقاء أدبي، بل تدريبًا جماعيًا على الحضور في حضرة الغياب، واستدعاءً واعيًا لقيم الكتابة والمساءلة، حيث تتحول القصة إلى مرآة، والمجموعة إلى تمرين مفتوح على مواجهة الخسارات بصوتٍ لا يزال يكتب.