المقدمة:
منذ فجر الإنسانية، لم تُصوَّر المرأة كذات مستقلة فحسب، بل كمرآة تعكس هواجس الرجل، وقلقه من فقدان السلطة. نُسبت إليها الخطيئة الأولى، وارتبطت بالشر والغواية في الأساطير: من حواء التي أغوت آدم، إلى “باندورا” التي فتحت الصندوق، و”فينوس” و”النداهة” اللتين جسّدتا الفتنة، في مقابل رموز الطهر كـ”مريم”.
في هذا التنوع الرمزي، يتكشف — من حيث لا يُقصد — هشاشة البنية النفسية للرجل، وحاجته لإعادة تثبيت مكانته من خلال تمثيل المرأة: تارة شيطانًا يُغويه ويهدده، وتارة قديسة تُنقذه، كما في “سلمى” في الأجنحة المتكسرة، ملاك في طهارتها، وشيطان في تأثيرها غير المقصود.
لقد ألّه الرجل المرأة حين فتنته قدرتها على الخلق، فرسمها كـ”الأم الكبرى” و”غايا” و”عشتار” — رموز تجمع بين الخلق والدمار، والحب والخوف. وهكذا، ظلّ تمثيل المرأة مرآة مزدوجة: تكشف هشاشة الرجل، وتمنحه وهم السيطرة.
في هذه القراءة، نسعى إلى تفكيك هذا التمثيل الرمزي، وتتبع انعكاساته على البنية النفسية للرجل، بوصفه كائنًا قلقًا، يحتاج “الآخر الأنثوي” لتثبيت ذاته.
المرأة في المخيال الذكوري — بين الإلهام والتشييء
يبدأ التخيّل الذكوري من لحظة التأسيس الأولى: لحظة الخلق. ففي معظم الروايات الدينية والثقافية، الرجل هو الأصل، والمرأة جاءت لاحقًا. هذا الترتيب لم يكن بريئًا، بل حوّل المرأة من “كائن إنساني” إلى “كائن مكمّل”، من ذات مستقلة إلى ظلٍّ تابع. وبتكرار هذا التصوّر في الخطابات الدينية، والأساطير، والحكايات، ترسّخت صورة المرأة كضرورة عاطفية أو إغوائية، لا ككائن يحمل إرادة وفكرًا وفعلًا.
تقول الحكاية إن الله خلق آدم، ولما شعر بالوحدة، خلق له من ضلعه حواء لتؤانسه. ثم أغرته بتفاحة، فكانت الخطيئة الأولى.
حكاية تبدو بسيطة، لكنها تحمل في طيّاتها تصوّرًا خطيرًا: الرجل أصل، والمرأة فرع. هو الفاعل، وهي الرفيقة؛ هو الخارج للصيد ومقارعة الحياة، وهي الجالسة في الكهف، في انتظار عودته.
أهو ترتيب إلهي فعلاً؟ أم أنه خيالٌ نسجه وعيٌ ذكوري، جعل من المرأة مرآة للرجل، لا كينونة قائمة بذاتها؟
لنعد إلى السؤال الجوهري، كما طرحته سيمون دي بوفوار: ما هي المرأة؟
هل هي ذاك الكائن المحدَّد بخطوط جسده، بصورته المثيرة كما يرسمها الخيال الذكوري؟
أكانت مقيدة بدورها كزوجة وأم، وبمسؤوليتها عن راحة زوجها وتنشئة أبنائها واستقرار بيتها؟ أم أن ذلك أكسبها منزلة رفيعة مكنتها أن تهز بيد سرير طفلها وتسند العالم كي لا يقع بالأخرى!
ألم يكن لها ذلك الحضور الإنساني الكامل، الذي كتب عنه جبران قائلاً: “هي كل شيء في هذه الحياة: التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف…”؟
وهل هي أنثى بالولادة كما يقول الجسد، أم أن الثقافة والتنشئة هما من جعلا منها “امرأة” بالشكل الذي نعرفه؟
أم أن في كل مجتمع إنساني تتباين النظرة إليها، رفعها البعض وحط بها آخرون؟ تارة الجنة تحت قدميها، وتارة هي الساحرة التي أُحرِقت على تخوّف منها، وتارة توقفها الظروف على ناصية الشارع تستجدي بجسدها كي تعيش.
والرجل يتنقل بحرية الحسون من زهرة لزهرة، فهذه رفيقة وتلك صديقة والأخرى عشيقة، تارة يستخدم الدين عذرا، والقانون سلاحا، والعرف مطية وعونا.
وإذا عادت إليه إحداهن وطرقت بابه، صدّها قائلا:
أن الرفاق أتوا إلي.
لترد عليه:
“أهُمُ الرفاق أتوا إليك؟
أم أن سيدة لديك
تحتل بعدي ساعديك؟”
كما تقول فايزة أحمد في أغنيتها رسالة من امرأة.
في هذا المحور، نحاول أن نفكّك هذا التخيّل المزدوج: كيف كانت المرأة مصدر إلهام وسحر، لكنها في الوقت نفسه عُوملت كجسد، كرمز، وكشيء.
في الأدب العربي، لطالما ظهرت المرأة في قصائد نزار قباني كملهمة حسّية جميلة، لكنّ صوتها غائب، وكأنها موجودة لتُرى وتُشتهى فقط، لا لتتكلم أو تختار. ويتجلى ذلك في قوله:
“تريدين مثل جميع النساء…
كنوز سليمان …
وأحواض عطر
وسرب إماء”
هنا تتحول المرأة إلى كائن استهلاكي مكرَّس للزينة والترف، محصورة في إطار بصري ورغائبي، دون حضور فعلي أو إرادة حرة.
وفي الأدب الغربي، نجد مثالًا صارخًا في رواية مدام بوفاري لفلوبير، حيث تبدو “إيما” أسيرة لخيالها العاطفي، الذي غذّته قراءاتها للروايات الرومانسية، مدفوعة برغبات لا تُشبع، تتجلى في نزعتها التمرّدية والاستهلاكية. إنها صورة للمرأة التي حاولت أن تتجاوز القالب الاجتماعي المرسوم لها، فسقطت في فخ التوق الدائم لما هو أكثر، وانتهى بها المطاف إلى مصير مأساوي.
أما سيمون دي بوفوار، فقد حلّلت هذه التصوّرات في كتابها “الجنس الآخر”، مؤكدةً أن ما نعتبره “أنوثة” ليس إلا بناءً ثقافيًا يعكس رغبات الرجل وتصوراته، لا حقيقة جوهرية.
لكن المرأة المعاصرة اليوم أثبتت أنها صنوا للرجل وندًّا له، أثبتت وجودها وتركت بصمة في الدوائر العلمية، والقانونية، والسياسية. تراها تخطو بثقة في الساحات التي كانت تُعد رياضات خشنة، برزت في رياضات تتطلب القوة البدنية والاحتكاك الجسدي، مثل المصارعة وكرة القدم، بعد أن كانت محصورة في عروض الجمال والرشاقة. لم تعد كيانًا هشًّا يخشى عليه، بل أصبحت وردةً لا تؤلم إلا من يجهل رقتها..
النوادر الشعبية وسخرية الرجل من العلاقة بالمرأة
تُعدّ النوادر الشعبية من أبرز أشكال التعبير الثقافي في المخيال الجمعي العربي، حيث تُصوَّر العلاقات الإنسانية — لا سيما بين الرجل والمرأة — في قالب ساخر يخفي توترًا غير معلن، ونقدًا اجتماعيًا مبطنًا. وتكمن أهميتها في كونها مرآة لا واعية لقلق المجتمع تجاه توازن الأدوار بين الجنسين، خاصة في مسائل الزواج والعاطفة والسلطة.
وفي هذه الحكايات، تتجلى صورة المرأة في الثقافة الشفوية العربية عبر ثلاث أنماط نمطية متكررة:
المرأة المتمنّعة: التي لا تحب الرجل رغم سعيه خلفها.
المرأة المتطفلة: التي تلاحقه بإلحاح، لكنه لا يطيقها.
الزوجة: التي لم يخترها، ويعيش معها كمن يؤدي واجبًا لا يرضيه.
ورغم طرافتها، تُخفي هذه الصور أنماطًا من التوجس الذكوري إزاء النساء، وسنحاول تفكيكها لفهم ما تعكسه من مخاوف الرجل تجاه الالتزام أو فقدان السيطرة على حياته العاطفية والاجتماعية.
أولًا: الصور الثلاث للمرأة في النوادر
1. المرأة المتمنّعة
تُصوَّر كمن تصدّ الرجل وتعزف عنه، فلا تبادله الحب ولا تُبدي نحوه رغبة. يلاحقها بلا جدوى، يتودّد ويتعثر. هذه الصورة تعكس خوفًا من الرفض، وتُظهر الرجل كضحية لمشاعر لا يتحكّم بها، ساعيًا خلف “اللاممكن”، حيث يغلب التحدي على التفاهم.
2. المرأة المتطفلة
لحوحة، تلاحقه دون هوادة، فلا تترك له فسحة للتنفس، فيراها عبئًا ثقيلًا. تُصوَّر كمزعجة ومهيمنة، تُهدد استقلاله، وتعكس قلقه من علاقة تُقيده وتُلاحقه حيثما ذهب، بينما هو يحاول التملص منها بكل وسيلة.
3. الزوجة غير المحبوبة
ليست الحبيبة ولا المختارة، بل نتاج عادات أو ظروف. تُختزل إلى روتين خانق، خالية من الإثارة. يتعامل معها كواقع مفروض، ويهرب منها إلى التشويق خارج العلاقة. وكأن الزواج — في هذه الصورة — نفي للحرية والرغبة معًا.
ثانيًا: نموذج من السرد الشعبي المعاصر
في نكتة شعبية تقول إحدى النساء:
“في حياة الرجل ثلاث نساء: واحدة يحبها ولا تحبه، وأخرى تحبه ولا يطيقها، وثالثة ليست لها علاقة بالموضوع… هي زوجته!”
تختزل هذه الجملة الساخرة الصور الثلاث، وتكشف عن التناقض الذي يعيشه الرجل:
يسعى خلف من لا تهتم به، لأنها تمثل التحدي والانتصار.
يهرب من من تحبه، لأنها تهدده بالاحتواء الكامل.
ويعيش مع زوجة لا تثير فيه شغفًا، لكنها تحكم تفاصيل يومه.
وفي صورة كاريكاتورية أخرى، تُقدَّم الزوجة الشرقية في مطبخها، تنصب عرشها بين أدوات الطهي والتنظيف، متفرغة لرعاية البيت. بينما الزوج، العائد من الخارج، تتلقاه روائح البصل والتوابل، فيأكل ويهرب بعدها إلى مغامراته الليلية.
الزوجة مطمئنة لأنها “أتقنت أسر قلبه عبر معدته”، لكنها لا تحتل قلبه، بل تشغل وقته. أما هو، ففي مخدعه حقيبة مغامراته، يخطط لأنثى جديدة، جميلة، شامخة، توقظ فيه غريزة الصيد والانتصار.
تكشف النوادر الشعبية، في تراثها القديم وحديثها، عن بنية ثقافية تُسخّف العلاقة بين الرجل والمرأة، لكنها تفعل ذلك بوصفه تعبيرًا ساخرًا عن صراعات خفية: بين الرغبة والخوف، التملك والهروب، الحنين للمغامرة والرغبة في الاستقرار.
إن تفكيك هذه الصور يُسهم في فهم أعمق للديناميات الجندرية والاجتماعية في الثقافة العربية، ويدفع لإعادة النظر في الصور النمطية السائدة، نحو خطاب أكثر عدالة وتوازنًا في تمثيل العلاقة بين الرجل والمرأة.
المرأة كقائدة ومُغيّرة — كسر الصورة النمطية
تحتل قضية تمكين المرأة في مراكز القيادة وسوق العمل اهتمامًا متزايدًا، لما لها من أثر مباشر على التنمية البشرية والمجتمعية. وقد تجاوزت المجتمعات الحديثة فكرة النظر إلى المرأة ككائن تابع، لتسعى إلى منحها المكانة التي تستحقها بوصفها فاعلًا مؤثرًا، قادرة على إحداث التغيير في شتى الميادين. لم تعد المرأة وردةً في كأس بلور، بل قوة متجددة تتخذ أشكالًا مختلفة في كل عصر.
ومنذ فجر التاريخ، لم تكن المرأة كائنًا هامشيًا، بل حاضرة في مفاصل السلطة والتغيير. فقد مثّلت حتشبسوت نموذجًا فريدًا للقيادة السياسية في مصر الفرعونية، حين جلست على عرش الفراعنة بذكاء ودبلوماسية. وقادت زنوبيا مملكة تدمر متحدّيةً روما في جرأة نادرة، لتسجل حضورًا نسائيًا في قلب الصراع الإمبراطوري. أما أوليمبياس، والدة الإسكندر الأكبر، فكانت شخصية هيلنستية تجمع بين الأمومة والنفوذ السياسي، إذ أحاطتها الأسطورة بقدرات تتجاوز حدود الواقع، مما يعكس كيف شكّلت النساء السلطة حتى من خلف الستار. ثم تأتي الخيزران، والدة الخليفة العباسي هارون الرشيد، بوصفها واحدة من أبرز النساء نفوذًا في العصر العباسي؛ إذ كانت صاحبة الكلمة العليا في شؤون الدولة، تؤثر في القرارات المصيرية، وتدير شؤون الحكم حتى بعد وفاة زوجها الخليفة المهدي، دون أن تهدم أسس الخلافة أو تتجاوز حدودها الظاهرة.
وفي العصر الحديث، تجلّت صورة المرأة العلمية في ماري كوري، التي فتحت أبواب الفيزياء والكيمياء أمام النساء، بفضل إنجازاتها الرائدة في مجالي النشاط الإشعاعي والبحث العلمي. وفي مجال النضال الاجتماعي، قادت روزا باركس ثورة مدنية صامتة حين رفضت التخلي عن مقعدها في الحافلة لرجلٍ أبيض، متحدّيةً قوانين الفصل العنصري في الولايات المتحدة، لتصبح رمزًا للكرامة والعدالة والمقاومة المدنية السلمية.
وفي الحقول الأدبية والرمزية، تظهر تمثيلات أكثر تعقيدًا لصورة المرأة، تكشف عن صراعاتها الداخلية وتوظيفها للجسد بوصفه وسيلة للسلطة أو للهروب. ففي رواية شرق عدن لشتاينبك، تمثل كاترين شخصية قاتمة توظّف الجنس كأداة للسيطرة والإذلال، دون مشاعر أو تعاطف، في تجسيد لما يشبه الشر المطلق. أما مدام بوفاري، بطلة رواية فلوبيير، فتمثل امرأة حالمة، تبحث عبر جسدها عن الحب والحنان والهروب من واقع زواج رتيب ومجتمع خانق، لكنها تنتهي مأساويًا ضحيةً لأوهامها الرومانسية ومجتمعٍ لا يرحم النساء الخارجات عن الإطار.
إن هذا التعدّد في صور المرأة — من عرش السلطة إلى مختبرات العلم، ومن ساحات النضال إلى مساحات التخييل الأدبي — يؤكد أن المرأة عبر العصور ليست تكرارًا لما سبق، بل استمرارية إبداعية تتجدد مع كل زمن، وتلهم الحاضر بميراثها المتنوع وقدرتها على التكيّف والقيادة والتغيير، سواء من موقع السلطة العلنية أو من خلف الستار، من خلال الحب أو الغواية، بالعقل أو بالتمرد.
في الختام:
ندعو الأفراد والمجتمعات إلى إعادة تعريف مفهوم القيادة والمكانة من منظور شمولي يتجاوز القوالب التقليدية والانحيازات الضيقة. فتمكين المرأة لا يعني سحب البساط من تحت أقدام الرجل، بل الاعتراف المتبادل بالقدرة على الإلهام والتأثير لدى الجميع، رجالًا ونساءً.
فالقيادة ليست منصبًا أو سلطة فحسب، بل هي فعل إنساني يقوم على الإصغاء، والجرأة على التغيير، وبناء الجسور لا تشييد الأسوار. ومن تمام هذا الفعل أن نعترف بأن الهشاشة ـ لدى الرجال والنساء معًا ـ ليست ضعفًا يُخفى، بل بوابة إلى الصدق، والتعاطف، والتوازن الإنساني.
فلنشجّع على بناء بيئات عمل ومجتمعات تحتضن التنوّع، حيث يُتاح لكل فرد أن يعبّر عن رأيه ومشاعره دون خوف أو إقصاء. إن إعادة تعريف القيادة ليست مهمة فردية، بل مسؤولية جماعية تتطلب شجاعة الانفتاح والمشاركة في هذا التحوّل، لصناعة عالمٍ أكثر عدلًا وكرامة وشمولًا.
سعيد ذياب سليم