قراءة ثقافية في خطاب الدكتور “سعد كموني” عن جدل الانتماء وتوازن الهوية.
إلى أبنائنا: هذا ما تعنيه العروبة، وهذا هو الإسلام.
في زمنٍ عربي تَمزَّق فيه النسيج الجمعي وتكاثرت الهويات الفرعية على حساب الكِيانات الجامعة، يبقى الفكر المسؤول فعلَ مقاومة. وفي ظلّ التداعيات الفكرية والثقافية التي يعيشها العالم العربي، تبرز أهمية ما قدّمه الأستاذ الدكتور “سعد كموني” في الندوة التي نظّمتها وحدة الدراسات الثقافية في المعهد العالمي للتجديد العربي، حيث ألقى كلمة تحت عنوان: “العروبة والإسلام: جدل العلاقة وهندسة التوازن في الخطاب الثقافي المعاصر”.
وقد جاءت كصرخة حضارية تدعو لإعادة بناء خطاب عقلاني ومتصالح مع الجذور. ورؤية متكاملة قادرة على التفاعل مع خصوصية الأجيال الراهنة وإنهاء الصراع الإيديولوجي بين الانتماءين.
ولقد حملت كلمته أكثر من مجرد تنظير فكري؛ إذ كانت موقفًا ووعيًا ونداءً حضاريًا في آن. فقد أعادت ترتيب العلاقة الملتبسة بين العروبة والإسلام، من خلال فهم جذور التلاقي والتكامل، واستعادة المعنى الأصيل الذي تخلّى عنه الكثيرون إمّا في طغيان الخطاب القومي الأحادي، أو في انغلاق الرؤية الأيديولوجية الدينية.
العروبة وعيٌ ثقافي – حضاري
يعيد الدكتور “سعد” العروبة إلى موقعها الحضاريّ الأصليّ، بوصفها حركة تاريخية متعددة الطبقات، تشكّلت من تفاعل اللّغة، والدّين، والثقافة، والخيال السياسي، من المحيط إلى الخليج.
وهو في ذلك يلتقي مع فكر “ساطع الحصري” الذي قال: “لسنا نحن الذين نحيي القومية، بل هي التي تحيينا، لأنها التعبير الصادق عن وحدة مشاعرنا وآمالنا”.
كما يتماهى تصوّره للعروبة بوصفها هوية ديناميكية، تتواءم مع طرح “إدوارد سعيد” الذي كتب في “الثقافة والإمبريالية”: إن الهوية ليست جوهرًا ثابتًا، بل هي سرد متجدّد لِما نَحن عليه، وما نريد أن نكون”.
فالعروبة كما ورد في خطاب د. “سعد” مشروع نهضة جماعي، يعيد توجيه البوصلة إلى اللغة والذاكرة والتراث الحي، بوصفها عناصر مؤسسة للوعي والانتماء.
الإسلام: بُعد كوني وهوية أخلاقية
سلّط الدكتور “سعد” الضوء على البعد الحضاريّ للإسلام، بوصفه رافعة أخلاقية – ثقافية أسهمت بعمق في بناء الذّات العربية. هذا يذكّرنا بقول “مالك بن نبي”: “إن مشكلتنا ليست في الإسلام، بل في الطريقة التي نفهم بها الإسلام”.
وقد دعا كموني إلى تجاوز التوظيف الأيديولوجي للدّين، داعيًا إلى رؤية متّزنة تحتضن الإسلام بوصفه جزءًا أصيلًا من المشروع العربي الحضاري.
كما تلتقي روحه في الطرح مع الفيلسوف “محمد عابد الجابري” الذي يرى أن: “التراث الإسلامي هو مجال للعقلانية متى ما أُحسن تأويله خارج إسار الأيديولوجيا”.
لحظات التوتر وتحوّلات الهوية
ومن أبرز ما تضمّنه الخطاب ذلك التشخيص التاريخي للتوتر بين العروبة والإسلام، كنتيجة لسوء الإدارة الفكرية والسياسية منذ سقوط المشروع القومي بعد نكسة 1967، وصعود الإسلام السياسي الذي غالبًا ما احتكر الدين في تمثّله الضيّق.
فهذه الرؤية التاريخية تُذكّرنا بقول “عبد الرحمن الكواكبي” في “طبائع الاستبداد”: “ما انتشر الإسلام في أوج حضارته إلا لأنّه كان إنسانيًا لا طائفيًا”.
في سبيل خطاب متوازن: هوية مركبة ومثقف – جسر
قدّم الدكتور “سعد” تصورًا حيويًا لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، مشدّدًا على أهمية تجاوز الاحتكار الأيديولوجي، والاعتراف بالهوية المركبة للعربي المعاصر، في جمعه بين الانتماء القومي والديني، دون تفريط أو تغليب.
واقترح – بكل وعي ومسؤولية – تمكين “المثقف الجسر”، ذاك الذي يربط ولا يُقصي، ويجمع ولا يفرّق. وهو قريب هنا، في روحه من أطروحة “طه عبد الرحمن” حول ضرورة أن يكون المثقف العربي “مؤمّنًا على القيم”، لا مجرد ناقل لأفكار الغرب أو سجين للتراث.
من أجل جيل عربي جديد: التربية على الوعي الجمعي
ربما كانت أسمى دعوة في خطاب د. “سعد” تلك التي توجّه بها ضمنيًا إلى الأجيال العربية الشابة، بأن يبنوا وعيهم على أرضية ثقافية وروحية صلبة.
هذا يعيدنا إلى جوهر مقولة “عبد الكريم بكار”: “لا يمكن للأمة أن تنهض إن لم تُربَّ أجيالها على المعاني الكبرى”.
وإن هذا الخطاب يشكل خطوة مهمة نحو فتح حوار ثقافي مسؤول، يعزّز مشروع الانبعاث الحضاري العربي– الإسلامي، ويقوي دلائل الأنفة والتمسّك بالهوية وسط عالم متغيّر.
وهو نداء لإعادة هندسة الإنسان العربي من الدّاخل، بلغة توقظ الوعي، ودين يوجّه، وتاريخ يُستنطق بعين المستقبل، وحاضر يُصنع بروح الجيل الناشئة، بروحٍ مسؤولة.
تحية من القلب والفكر إلى الأستاذ دكتور “سعد كموني”
هذا المفكر الذي يُترجم فكره إلى رؤًى ثقافية، ومناهج تعليمية، وخطابات إعلامية مسؤولة.
ما قدّمه هذا العظيم في هذه الندوة؛ هو زَرْعُ نورٍ في العتمة، ودعوة إلى كل من يحمل محبةً لهذه الأمة، أن يساهم في بناء الوعي وسط ركام الاختزال.
شكرًا ، لأنك قلت ما يجب أن يُقال، وذكّرتنا أن الهوية ليست معركة بين الأجزاء، بل بناءٌ منسجمٌ من عناصر متعدّدة متكاملة.
فلنزرع في دروب أبنائنا كل محبة،
وكل فكرٍ ينتج جديدًا.
د. سناء يحفوفي – بيروت