في مقاهي المدينة… هل نَختار أم نُختار؟سعيد ذياب سليم

المقدمة:
لطالما شابت أجواء المقهى مشاعر من الغموض والحنين، حيث العشاق يرتشفون القهوة ويرتوي أحدهم من عيني الآخر، والثوار والغرباء يُقَلِّبُونَ صحفهم بعيون حزينة تهتز لرؤية الجمال. لكن خلف هذا المشهد الحالم، يجلس العاطلون عن العمل، والتجار المفلسون، والمقاولون الهاربون من الدائنين، والأزواج المتعبون، والمحامون الذين اتخذوا المقهى مكتبًا، والمتقاعدون الهاربون من الفراغ. سواء كان المقهى بيروتيًا على أنغام فيروز، أو باريسيًا في ظلال الدلب، أو لندنيًا بنكهة الشاي والعسل، فلكل مقهى نكهته، ولكل جالس فيه قناعٌ أو حكاية.
رغم تنوع الأمكنة وتباين الأجواء، يبقى للمقهى طقس خاص، اِكْتَشَفْتُهُ عند زيارتي الأولى، شَعَرْتُ وكأني أدخل معبدًا لديانة جديدة. جلستُ بين مجموعات تلعب الورق وتتصايح، ورجل وحيد يعلّق على الأخبار وسط الضجيج، وأنا أتمثّل دور المثقف متصفحًا كتابي. في رحلة لاحقة، وجدت نفسي في مقهى فندقي، أراقب راقصة تتمايل بتعب بين رواد المقهى، بينما شعرتُ بالغربة. لماذا نختار هذه الأماكن؟ من نرغب بمرافقته؟ ومن نتهرب منه؟
بعض الناس يفضلون أماكن باهظة الثمن، تقدم نفس الخدمات، فقط ليجلسوا بين من يشبهونهم.
يقول هايدغر إن الإنسان يعيش دائمًا “مع” الآخرين، لكن هذه “المعية” مشروطة بثقافة وطبقة وخيارات. فهل نرتبط حقًا بهذه الأمكنة؟ أم نرتدي فيها أقنعة؟
كأن المقهى مرآة صغيرة للعالم: نأتيه بأوجهنا الخفية، ونختبر فيه شعور الانتماء والوحدة في آن.

الوجود-مع: شرط فلسفي أم قناع اجتماعي؟

قدّم مارتن هايدغر سنة 1927 مفهوم “الوجود-مع” (Mitsein)، مؤكدًا أن الإنسان لا يوجد في عزلة، بل منذ البداية منخرط في عالم يسكنه الآخرون. الآخر ليس “إضافة” بل مكوّن بنيوي في الكينونة، نُعرّف أنفسنا عبر علاقتنا به، في اللغة والعمل والقلق والمعنى.
لكن هذه “المعية” ليست دائمًا أصيلة. فقد نَحْيَاهَا بوعي ومسؤولية، أو نذُوب فيها هربًا من الذات، كما يحذّر هايدغر.

هنا تتقاطع رؤية هايدغر مع طرح سيمون دي بوفوار، التي ترى أن الآخر قد يُختزل إلى مرآة للهوية أو أداة للهيمنة. في المجتمعات الذكورية، يُعاد تشكيل “المعية” على نحو غير متكافئ: الرجل ذات فاعلة، والمرأة تابع يُربّى على الطاعة، ويجد في التبعية طمأنينة زائفة. فالمعية، رغم أنها نواة وجودية، تتحوّل تحت الضغط الثقافي والاقتصادي إلى قناع اجتماعي.

هذا التشوّه يتجلى في الحياة اليومية: فتاة جامعية تقرأ في مقهى عمّالي تُعدّ دخيلة، إلا إذا كانت تنتمي لجماعة نضالية. والمعية تُعاد تشكيلها بحسب الطبقة والجندر، بل ويذوب البعض في مجتمعات النخبة الراقية، حيث تُخفى الهويات خلف أناقة ورموز استهلاكية.

هكذا، لا تعود “المعية” شرطًا وجوديًا فحسب، بل تمثيلًا اجتماعيًا يُمارَس ويُؤدَّى، مما يجعل سؤالنا ضروريًا: هل نعيش الوجود-مع بصدق؟ أم نخفي وراءه قناعًا نرتديه لننتمي؟

خريطة الأمكنة وتمثيلات الذات – حين نختار من نكون عبر المكان
أين تلتقي بأصدقائك؟

قد يبدو السؤال بسيطًا، لكن خلف بساطته تكمن اختيارات هوية. فالجلوس في ركن مقهى، أو في حديقة عامة، أو حتى على درج بناية قديم، ليس فقط بحثًا عن الراحة أو الصحبة، بل هو إعلان غير معلن عن من نرغب أن نكون، أو كيف نريد أن يُنظر إلينا.

في المقهى الشعبي، وسط ضجيج الأكواب ولهجة الناس العفوية، تبدو المسافة بينك وبين الآخر قصيرة. إنه مكان يذيب الحواجز، يختزل الهوية إلى بساطة وانتماء. أما في مقهى فاخر أو فندق أو مول، فالصمت مقصود، والمشهد مصقول، كأنك تهمس للعالم: “أنا هنا لأنني أستحق”. المقهى لا يعكس ذوقك فقط، بل يعكس تصورك عن ذاتك.

في النوادي الخاصة، مثل صالات الرياضة الراقية أو معارض الفن، تمشي وسط نُخب تختار بعناية من تراه ومن يراها. هويتك هنا تُصنع على مهل، كأنها مشروع استثماري شخصي. وعلى النقيض، هناك أمكنة المتعة أو الهروب: الحفلات السرية، أو المقاهي ذات الإضاءة الخافتة، حيث تختفي الأسماء وتظهر الأقنعة. هذه ليست أماكن لتعريف الذات، بل لاختبار نسخ متعددة منها.

بل قد تُصبح الأمكنة بذاتها جزءًا من الأسطورة الشخصية. هناك جزر خاصة أو مقاهٍ غريبة، يروي الناس عنها وكأنهم مرّوا بعتبة من الخيال، مثل ألف ليلة وليلة. أو مقاهٍ متجولة يقودها أفراد شغوفون، يضيفون طابعًا إنسانيًا على الضيافة، من ببغاوات تطير في المكان، إلى قطط تلاعب الأطفال.

وفي أقصى الشرق، هناك مقاهي النوم اليابانية، وأوتشايا الغيشا، حيث يتحول المكان إلى مسرح احتفاء بالذوق والطقوس.

والمكان، مهما بدا بريئًا، هو تمثيل رمزي. نختار موقع الطاولة، نوع المشروب، وحتى طريقة الضحك كأننا نُخرج مشهدًا.

وهكذا، لا تعود الأمكنة مجرد فضاءات، بل مرايا وهويات، وأقنعة نختبر من خلالها أنفسنا. فالسؤال ليس فقط: “أين نلتقي؟”، بل: “من نكون حين نختار مكان اللقاء؟”.

الثقافة، التربية، والوعي – هل يمكن إنقاذ المعية؟
ما إن يدخل الفرد مجتمعًا معلنًا عن نفسه، حتى تستقبله الأعين بتفحّص: قيافته، لهجته، إيماءاته، لتقرّر هل هو “من جماعتنا” أم لا. هكذا يبدأ التمثيل، لا نفاقًا بل أداءً اجتماعيًا نمارسه لا شعوريًا لنُقبل. نرتدي الأقنعة بحسب السياق — في العمل، أو النادي، أو دار العبادة. لكن مع الوقت، يتآكل الحد الفاصل بين ما نُمثّله وما نحن عليه، حتى نخشى السقوط لا لفضح زيف، بل لفقدان الأصل.
في هذا السياق، تظهر ملامح “الحداثة السائلة” كما يصوّرها زيجمونت باومان: لا ثوابت، لا التزام دائم، لا انتماء واضح. كل شيء مؤقت، سريع الزوال، والعلاقات سطحية تتحرك بمنطق النفع اللحظي. الثقة تتآكل، والمعية تضعف، ويُنظر إلى الآخر كمصدر تهديد لا شراكة. ومع صعود العولمة والثقافة الرقمية، دخلت هذه السيولة إلى مجتمعاتنا، فخلقت توترًا بين تقاليد متجذرة وحداثة متقلبة.
هنا تتعاظم مسؤولية التربية، لا بوصفها نقلًا للمعرفة، بل بناء للوعي. فالمعلم فاعل ثقافي، عليه أن:
1. يكشف هشاشة الأداء الاجتماعي الزائف.
2. يرسّخ القيم الوطنية والإنسانية في الممارسة لا في الشعارات.
3. ينمّي مهارات التعاون لتجاوز الفردانية.
4. يفعّل القيم في الحياة اليومية عبر أنشطة واقعية.
قد تبدو اللقاءات الاجتماعية متماسكة شكليًا، لكنّها كثيرًا ما تفتقد الانغماس الوجداني الحقيقي. إنقاذ “المعية” لا يكون بالحنين إلى الماضي، بل بإعادة تشكيل الروابط لتناسب زمنًا جديدًا، مع الحفاظ على جوهرها: أن نرى في الآخر مرآة لإنسانيتنا، لا تهديدًا لها.

خاتمة
إذا كنا نعيش دومًا “مع” الآخرين، فلماذا نشعر أحيانًا بهذه العزلة العميقة؟

ربما لأن المعية فقدت معناها الأصيل، وتحولت إلى أداء، إلى مشهد نمثله بدقة ونغادره بانفصال.

لا يكفي أن نشارك المكان، ولا أن نُتقن طقوس اللقاء. المهم أن نكون صادقين في حضورنا، أن لا نتخفّى خلف الأقنعة، وأن نرى في الآخر شريكًا لا مرآة.

فالحرية ليست أن تختار مكانك فقط، بل أن تكون فيه كما أنت، دون خوف من الرفض أو الرأي العام.

إنسان الحداثة لا يحتاج إلى “حرية” مجردة، بل إلى معية حرّة — معية تُبنى على التقبّل لا على التصنيف، على الحوار لا على التمثيل، وعلى أن نكون لا كما يريدنا الآخر، بل كما نختار نحن أن نكون.

فربما لا يهم إن كنا نختار أم نُختار… ما يهم حقًا: كيف نحضر، ومن نكون، حين نفعل ذلك.
سعيد ذياب سليم