غادرتُ عمان أواخر عام 1998، لا أحمل معي إلا الغضب. كنت شاباً يضج بالرفض، يختنق بالخذلان، يفرّ من بلد “تقتله” الواسطة، وتُطفئ روحه جلسات محاكمة الصحفيين في قصر العدل، وتُذلّه حاجته لإيجار البيت وحليب طفلته الأولى. كان ينبغي أن أكون فرحاً بالسفر، لكني بقيت طيلة رحلتي بالطائرة إلى أبوظبي صامتاً مشدوهاً مشحوناً بمشاعر مختلطة، كنت أشعر بالاختناق، وبرغبة عارمة بالبكاء والصراخ!.
بعد شهور، رحل الحسين. كنت بعيداً، وحدي، أتمشى على شواطئ غريبة. لم أكن متصالحاً مع الدولة، لكني بكيت. شعرت كأن شيئاً مهماً يهزني بعنف دون أن أكون مستعداً. ظننت لاحقاً أن هذا الحدث الجلل قد يعيد تشكيل العلاقة مع البلاد، فالحزن يفتح أبواباً أغلقها الجفاء، لكن لم أفلح.
قلت لنفسي: انسَ. أنت الآن في بلاد الفرص، في مكان يتمناه الآلاف. ابنِ حياتك، عائلتك، مستقبلك. ومع ذلك، لم أنجُ. لم يفلح الاسترخاء المعيشي في اقتلاع الصخب الذي يعبث بعقلي. التفاصيل اليومية أغرقتني، فدخلت في معركة طويلة مع الوقت والمكان والحنين وتبديل المرافئ. كنت أحتفظ بساعتين؛ واحدة بتوقيت البلاد الجديدة، والأخرى بتوقيت عمّان وددت كثيراً لو اتخلص منها وفشلت. كنت أتابع نشرات الأخبار الأردنية، وبرامج الصباح في يوم الجمعة، أتحسس اللغة حين تُقال أسماء المدن والقرى.
حين بدأ “الربيع العربي”، كنت في منتصف رحلتي الاغترابية، وفي أوج الوجع. شعرت أن الوطن أمام خطر وجودي. في البداية وددت لو أرفع راية مع الألاف في الدوار الرابع، وأن أهتف مع الحناجر الصادحة بالأحلام وسط البلد، ثم في وقت لاحق أفزعني السواد الذي تلبّس الرايات. الأرض التي حلمنا بها وطناً تتسع للجميع، أصبحت ساحة لمهووسين بالدم. كفروا بالوطن وبالاختلاف وبالحياة، وراحوا يوزعون الموت على مقاساتهم. كنا نرى الشعوب الساعية للحرية تسقط في جنون الدم والفوضى. من يومها، لم أعد أحلم إلا ببلاد. مجرد بلاد. فيها من يعالج، من يدرّس، من ينظم السير، ومن يحرس حدودها.
في الغربة يتغير كل شيء. تكبر البلاد في القلب، تصغر في العتاب. تصبح البلاد فكرة أكثر من كونها مكاناً. تصير حلماً قابلاً للغفران. أنا الحالم أبداً، الرومانسي في غير زمنه، ظللتُ أحب الكون وبلادي التي تسكنني.
لم يصدق أحد حين عدتُ قبل عام أنني فعلتها طواعية. اخترت العودة بكامل إرادتي. تركتُ موقعاً متقدماً وراتباً جيداً في أقل تقدير، وعدت. لا بحثاً عن وظيفة، بل عن بقاياي في الأزقة والجبال والحارات والمقاهي القديمة. ربما لأتحرر من شعور الضيف، وأعود لصاحب البيت. اخترت أن يتمدد القلب في الشوارع والوديان والحواكير، أن أعيش في بلاد أعرف وجهها وتضاريسها، وأفهم غضبها، وأعيش حزنها وما تيسر من فرحها.
في هذا العام، خضتُ تجارب متشابكة. التقيتُ بنماذج متباينة؛ بعضهم وددت لو أقبل جبينه كلما طلعت الشمس، وبعضهم أكد لي كم هي مُتعبَة هذه البلاد ومُتعِبة. أزعجتني أشياء كثيرة: رداءة الأخلاق في الشارع، قذارة الأرصفة، الكسل في الدوائر الحكومية، تعفن القيم في بعض المؤسسات، التبرير الدائم للخطأ باسم الفقر، كسر القوانين بحجج الحاجة أو “فساد الدولة”. لكنني تصالحت مع البلاد، حين أصبحت واقعياً في أحلامي. حين نزعت البراويز عن صورها المعلقة في الجدران العالية، وانزلتها إلى حيث الحياة بإيقاعها غير المتكلف، وصرت أحتفي بما تيسّر. وما تيسّر كبير لو تعلمون، بلاد حقيقية حرية بالعناية والحب، ولو كان قدرها البقاء على الحافة.
أحببت تنوّع عمان، نضج هوامشها، وظهور مجتمعات صغيرة تخلق خصوصياتها بهدوء. أحببت أن أرى مجتمعاً حقيقياً لا منتخباً، بأغنيائه وفقرائه، بطبقاته الملونة بكل الأطياف، بغجرية مكتنزة بالألوان تجر عربتها في شارع الصناعة، وببائع صحف على إشارة ضوئية وسط البلد، بصبية تستمع لأغنية صاخبة في سيارتها ولا تأبه لأعين المتلصصين، بكنيسة لا تبتعد عن المسجد، أحببت أن يمرّ بك رجل ستيني يروي لك نكتة عن السياسة ثم يشتمها. تقبلت عشوائية المدينة، وأصوات الباعة، أحببت رائحة الخبز في الصباح، ولهجة الجدّات في الأسواق. أحببت أيضاً أن ثمة روح مدنية تتشكل بما يناسب الشباب في كليات التكنولوجيا ومقاهي الجامعات، أن تغييراً في القيم يمكن رصده يعزز الانتاجية وينبذ الكسل، أن قلة لديها غيرة وطنية تدفع إلى التفكير بمشاريع ملهمة.
صرتُ أشرب قهوتي صباحاً على مهل، وأطل على الجبال الغربية لعمان فأغبط نفسي. لا أصدق أنني هنا بعد ربع قرن، في البلاد التي امتلكها وتمتلكني. أستشعر رغبتي كل صباح بلثم ترابها، والإمساك بهوائها.. تقولون مجنون! نعم أنا ذاك الحالم المجنون.
إلى المغتربين المتعبين: الوطن ليس مثالياً للعيش باسترخاء، لكنه هنا… ينتظر من يحتمله ويُحبّه رغم كل ما فيه. الوطن ليس جواز سفر ولا دخلاً ثابتاً فقط، بل هو إحساسك بأنك لست ضيفاً (وإن كنت ضيفاً لدى معزِّبين كرامٍ مكرَّمين). هو أن تسير في شوارع تعرف أسماءها، ولو تغيرت معالمها، وأن ترى في وجوه الناس بعضاً منك. فشدّوا الرحال إن استطعتم، ثمة بلاد تتّسع للجميع، فقط حين نعترف أن الوطن لا يُمنح جاهزاً، بل يُبنى بكثير من الحب. نعم شارع المطار هو أسعد الشوارع، لكن بالاتجاه إلى عمان.
البلاد التي تأوي فراشة وتحميها من ألسنة اللهب بلاد يُعوّل عليها. البلاد التي تحتضن أحلام الأطفال، وتمنحهم فسحة للحياة، بلاد يُعوّل عليها.
البلاد التي غادرتها غاضباً، أعود إليها محباً متسامحاً، بعد أن انكسرت في داخلي حدة الحلم، وهدأ في صدري ضجيج الأسئلة، بقيت الحقيقة الوحيدة: لا أحد يمتلك البلاد، لكنها تمتلكنا.
فهل ندمت؟ لا. على العكس، أنا اليوم أكثر رضاً وسكينة، لأنني اخترت أن أكون حيث أنتمي، لا حيث أهرب.