من الضروري جداً أن يأتي الاستهلال في مقدمة مختارات من القصة التركية (حدث في الآستانة) التي ترجمها أُسيد الحوتري، فهذا الاستهلال قد وضع القارئ العربي في أجواء النصوص القصصية المختارة والتي تشكّل لوحة مكتملة عن الدولة العثمانية قبل إعلان الجمهورية التركية، بل أشبه ما تكون برواية مشتركة كتبها قاصون أتراك، أو كما جاء في الاستهلال (رواية قص ولصق) كتبها تسعة من القاصين الأتراك أو رواية (كُلاجيّة). وفي الاستهلال إضاءات تتصل بالحكم العثماني، وتلك الإضاءات ما هي إلا اشتباك النص مع خارجه، أي قراءة النص ضمن سياقه التاريخي والاجتماعي، وليس عزل النص عن مؤلفه أو “موت المؤلف” كما يرى رولان بارت.
كما نجد في مقدمة كل قصة من هذه المختارات نبذة عن مؤلفها، كي يتعرّف القارئ العربي على سير هؤلاء القاصين، فما صنعه أسيد الحوترى في الاستهلال يدلّ دلالة واضحة على الجهد الكبير الذي بذله في ترجمة هذه النصوص من لغتها الأصلية اللغة التركية أو قد أُسمّيها اللغة العثمانية التي تختلف بشكل ملحوظ عن اللغة التركية المعاصرة، كما ألمح لذلك في الاستهلال، وليس هذا وذاك فقط بل إنّ أُسيداً المثقف يقدّم تاريخاً مختصراً ومشفوعاً بالحكم العثمانية وبالتغيّرات السياسية التي نهضت على أكتافها الجمهورية التركية.
في الفصل الأول (الربيع الأول) يختار المترجم ستة نصوص قصصية، حيث تُطالعنا قصة “بون بون” للكاتب الساخر أحمد راسم، و”بون بون” معناها الحلوى، وأظنّ أنها شائعة بين أطفال هذا الزمن، ويحمل المنتج الاسم نفسه “bon bon”، وهي قصة اجتماعية تُبرز ذكاء الطفل وشقاوته، وهو يلحّ على أمّه في الحصول على الـ “بون بون”، وتحاول الأم محاصرته كي لا يمارس شقاوته، وهما يعتليان “عبّارة” ترسو في خليج حيدر باشا.
تنشغل قصة “بون بون” بوصف دقيق لشخصية الأم وطفلها، وكأنّ الكاتب يرسم مشهداً (كاريكاتيرياً) لشخصيتين، من خلال السارد/ المؤلف، السارد المجازي والمؤلف الحقيقي، بحيث يغدو السارد هنا صوتاً فنياً للمؤلف، كما هو متعارف عليه في الدراسات النقدية. ويقطعُ السردَ حوارٌ مباشر بين الأم وطفلها، يكشف عن فيض الأمومة في لحظة فرض قيد على حركة الطفل في فضاء مكاني محدود ألا وهو “العبّارة”.
أدخلَ المترجم ألفاظاً تركية في لغة الحوار بين الشخصيتين، جاء تفسيرها في الحواشي، وقد خدمت جوّ النص، كما هي في باقي قصص المختارات، فلا يشعر القارئ بثقلها على النص، بل تكاد تكون جزءاً من لحمة النص نفسه، خاصة أن تجنيس النص قد يقترب من قصص الأطفال أكثر منه قصص الكبار، في حين نجد في القصة الثانية من المختارات “الإسكافيّ” للكاتب رفيق خالد كراي شخصية الطفل ذا الخمس سنوات تعي العالم المحيط به، فينتقل من إسطنبول إلى فلسطين، بعد وفاة والدته، فتستقبله عمّته ورفيقاتها من النسوة، كما استقبله عدد من الأطفال، هذا الاغتراب عن المكان الذي نشأ فيه دفعه للصمت أسابيع مضرباً عن الكلام، فهو لا يتكلم العربية، فوجد في الإسكافي، الذي حضر لبيت العمّة لرتق النعال المثقوبة والممزقة، طريقاً سهلاً للتحدث باللغة التركية، واستعادته لشيء فقده بعد فقد أُمّه.
ينهج أسلوب المؤلف (كراي) في قصة “الإسكافيّ” الأسلوب نفسه في قصة (أحمد راسم)، من حيث اللغة وطريقة السرد والحوار، ولولا أن كل قصة حملت اسم المؤلف لظنّ القارئ أن كلا القصتين لكاتب واحد، وأيضاً قفلة القصتين تكاد أن تكون متشابه من ناحية لحظة الإدهاش أو لحظة المفاجأة.
تدور قصة “تأثير الحزام” للكاتب عمر سيف الدين حول شخصية محمود الشركسي، هو يدّعي أنه شركسي وينتسب إليهم، برغم من أنه تركي الأصل، لكن “الحزام” الذي يطوّق خصره، وهو هدية من صديقه، يشي بأنه شركسي، وكان للحزام تأثير على محمود في انتسابه للشركس، هذا الأمر أثار فضول السارد/ المؤلف المشارك لشخصيات القصة، وهو يتحدث مع صديقه الضابط عن شخصية محمود، وكأنه أراد أن يكشف شخصية محمود المدّعي بالشركسية، ويفاخر بنسبه هذا، وأظن أن الكاتب عمر سيف الدين أراد أن يوصل رسالة للقارئ عن المدّعين بالنسب والمتخلين عن أصولهم.
جاء السرد مباشراً وبلغة بسيطة، وهي لغة لا تختلف عن لغة القصتين السابقتين (بون بون) و(الإسكافي)، وكأن كتّاب القصة آنذاك ينهلون من معين واحد، وينتهجون نهجاً واحداً في البناء القصصي ولغتها وطرائق سردها، في حين تتجاوز قصة الكاتب سامي باشازاده سيزائي (التمثيل الصامت) القصص الثلاثة السابقة فنياً، فقد استطاع الكاتب أن يقدم وصفاً دقيقاً لشخصية الممثل اليوناني (باسكال)، وكأن السارد يتنقل بكاميرا سينمائية تسجّل الواقع بمشهدية عاليه للمكان وشخصيات القصة، كما أن قفلة القصة درامية متقنة، وتثير لدى القارئ لحظة المفاجأة أو لحظة الإدهاش. فباسكال “الذي أدّى في المسرحية دور العاشق الولهان، جعل الناس يضحكون كثيراً عندما أخرج لسانه من أجل إعلان حبّه لحبيبته، وعندما تشقلب رأساً على عقبٍ من أجل إظهار امتنانه لها.”ص59، هو نفسه الذي أصابه الهم والغم عندما جاءت حبيبته (إفتاليا) بصحبة زوجها لحضور المسرحية، فعاد لمنزله وأغلق الباب على نفسه، ووجده أهل الحي مشنوقاً “وقد أخرج لسانه ببراعته المعهودة، متظاهراً بأنه رجل مشنوق!”ص62، فأدرك أهل الحي أن (باسكال) لم يقلد أحداً وإنما هي حقيقة الموت.
تدور أحداث القصة الخامسة (الجَمَل) للكاتب عمر سيف الدين – صاحب القصة الثانلثة (تأثير الحزام) – حول شخصية (ميستان آغا) الغجري، الذي عقد العزم على الهجرة من مدينة (أدرنة)، منتحلاً شخصة رجل عربي قادم من مكة، وأطلق على نفسه اسم (عبد المنّان)، متمثلاً شخصية الزاهد التقي، وكان هدفه جمع المال، “وأن يتزوج من فتاة تركية بيضاء”ص66، ويتخلّص من حياة الغجر البائسة. يستقر (ميستان) في مدينة (جناق قلعة) وقد جمع مالاً كثيراً بطرق الاحتيال، وتنتهي القصة حين أدرك ما قاله الشيخ في خطبة الجمعة: إن الجَمَلَ مخلوق من مخلوقات الجنة، فإذا ركبه إنسان ولم يقصد الكعبة مسخه الله فوراً، هذا الإدراك جاء بعد أن امتطى (ميستان) جملاً، فانتفض الجمل وجرى به وداس سنابل القمح، وهو يقفز بجنون، وأخذ (ميستان) يصرخ من شدة الخوف. ركض المزارعون حاملين مناجلهم، وأوقفوا الجمل، وأشبعوا (ميستان) ضرباً حتى ظنوا أنه قد مات؛ لأن الجمل قد عاث فساداً في مزروعاتهم، فألقوه في حفرة بعيدة، فاستفاق (ميستان) وسلك طريقاً إلى إسطنبول وهو يردد “ما أجمل حياة الغجر!”ص71.
هذه القصة ذات حبكة درامية، تتنامى فيها الأحداث بشكل متسارع، وفي تسلسل منطقي، في بنية سردية متماسكة، وفيها طرافة تثير الضحك والتسلية.
في القصة السادسة “ما أجمل الحياة” للكاتب ممدوح شوكت أساندال نجد حافظ نوري أفندي الشخصية الرئيسة في القصة تعبر الحياة بنظرة تأملية أو فلسفية، فكل شيء يعود من حيث أتى، فعلى الإنسان أن يعيش عمره لأن العمر محدد، فالحياة جميلة أو كما جاء على لسان نوري “الحياة، يا لها من شيء جميل”ص82. فكلّما التقى نوري بأحد معارفه، مثل: شكري ابن الإسكافيّ وخليل بائع الفحم ولاعبا طاولة الزهر، يواصل السير في الطرقات، لكنه في النهاية يعود لبيته في مدينة (أدرنة) ويجلس أمام النافذة يراقب حركة الحيّ، ويبدو أنه حيّ شعبي فقير.
على الرغم من بساطتها فنياً إلا أنها تحمل رؤية للعالم من خلال فعل إنساني في البحث عن السعادة، في فضاء مكاني يتسع لحكايات كثيرة.
في الفصل الثاني من المختارات (الخريف) أربع قصص، فالقصة الأولى بعنوان: “الخبز أوّلاً” للكاتب أورخان كمال، وهي حكاية اجتماعية، تتوزع أدوار شخصياتها حول الأب المخمور والزوجة المسكينة وابنتهما الطفلة (آيتن) والجدة (هديّة)، ومحور أحداث الحكاية يدور حول شخصية (آيتن)، التي تحلم بأن تصبح طبيبة، لكنّ والدها يدفعها اتجاه ترك الدراسة والاتجاه لسوق العمل الذي يوفر المال ويخرجهم من خطّ الفقر، فيتغلّب الحلم على العمل، رغم أن (آيتن) تدرك أن الخبز أولاً.
لجأ الكاتب إلى أساليب السرد المباشر في تصوير شخصيات القصة، فبساطة السرد القصصي قدّم للقارئ أحداثاً واقعية بعيداً عن الخيال، وقريباً من المتعة ونقل الأفكار، التي تسعى إلى القيم الأخلاقية أو التربوية في المجتمع.
والقصة الثاني في هذا الفصل بعنوان “منديل الحرير” للكاتب سعيد فائق، وقد أسمّي القصة “منديل العاشق”، وقد ذكّرتني بحكاية الشاب السارق مع والي البصرة خالد القسري، ذاك الشاب الذي ألقى بحجر على دار حبيبته للقائها، فسمع أبوها وإخوتها صوت الحجر، فصعدوا إليه، فلمّا أحسّ بهم جمع قماش البيت كلّه (أي الغسيل المنشور على سطح بيتهم)، وجعله صرّة، فأخذوه إلى الوالي، فأمر الوالي بقطع يده، لكن حبيبته اعترفت أنه لم يكن سارقاً، وإنما اعترافه بسرقة الملابس كي لا يفضح سرّها، فأمر الوالي بعشرة آلاف درهم للشاب، وعشرة آلاف درهم للفتاة، وزوّجهما.
هذا هو لص “منديل الحرير” الذي يحاول سرقة المنديل ليهديه لحبيبته. القصة طريفة وممتعة للقارئ، وفيها تصوير فني جميل، وسرد مباشر يحفّز ذهنية القارئ، حيث يقوم السرد على لحظة التشويق والإثارة. والقصة الثالثة من هذا الفصل للكاتب نفسه بعنوان “السّماور”، والسّماور أداة لتخمير الشاي، وتسرد القصة حكاية (عليّ)، الذي وجد أمّه ميتة، تلك أمّه التي اعتاد أن يقبّلها كل صباح قبل أن يذهب للعمل، وهي تعدّ له الشاي أو السحلب، بكى (عليّ) كثيراً لفراق أمّه، لكن حركة الحياة لم تتوقف بموت أمّه، هذا ما أدركه (عليّ).
في الفصل الثالث من المختارات وعنوانه “الشتاء” قصتان، الصة الأولى بعنوان: “الربيع” للكاتب أحمد حكمت مفتو أوغلو، وهي قصة تكشف عن سرّ حزن الشاب، اسمه مظلوم، وكأن للاسم دلالة قد اختاره الكاتب للتعبير عن مأساته، تلك المأساة التي انتهب بموت زوجته وأطفلها في حريق بيتهم، ورغم أن السارد حاول بكلّ جهده أن يخفف أو يحوّل سوداوية حياته إلى أمل، في ربيع يرسم لوحة تشكيلية من الجمال في حي (سراي بُرنو)، وهو أحد أحياء إسطنبول، ويبدو أن السارد استسلم لقَدرِ الشاب، وهو يردد في نهاية القصة: “ربيع! ربيع! لا أرى ربيعي إلا في الأشواك التي ستتفتّح فوق قبري.”ص133.
في (استهلال) المختارات يربط المترجم أسيد الحوتري رمزية القصة بما آل إليه الربيع العثماني المنتظر من خراب البلاد بعد الإنقلاب العسكري المستبدّ على الحكم العثماني، وهذا الربط الدلالي يحيلنا إلى قراءة النص من الخارج، أي من خلال السياق التاريخي للقصة. لكن من يقرأ النص في أنساقه الداخلية يكتشف أن للدلالة منحى آخر في فهم صراع القيم في المجتمع التركي، وذلك بالإشارة إلى الأب وزوجته. اللذان لم يقدّرا منزلة زوجة الشاب وأطفالهما قبل لقاء حتفهم السوداوي، وهذا المشهد التصويري في القصة هو مشهد نمطي يؤلّف عنصر الوصف وفاعليته الأدبية لدى القارئ، ويرسم الكاتب لوحة كما يفعل الفنان التشكيلي، في تماثلات سردية متتابعة لغرض إدرامي.
تقوم القصة الثانية “الحُبّ الأعمى” للكاتب نجدت صانتشار على حدوتة، أي على حكاية لها بداية ونهاية، تدور الحدوتة على أربعة أصدقاء على لسان السارد، وترتكز على خطاب وعظي مباشر حول “الحُبّ الأعمى”، فهؤلاء الأصدقاء يقعون تحت سطوة القيم الاجتماعية، فرياح التغيير في شخصية كل واحد منهم تدفع بقيم المجتمع السامية نحو النقيض، فتسقط القيم في لحظات الركض وراء شهوة الحياة، وينتصر الشر على الخير.
أيضاً، يقدّم المترجم في “استهلال المختارات قراءة خارجية للنص، وتُحيل القارئ إلى أحداث تاريخية ترتبط برمزية الدلالة للحدوتة.
في الختام، استطاع مترجم المختارات أسيد الحوتري، بحرفية عالية، أن يقدّم للقارئ العربي نماذج قصصية من الأدب التركي، ذات نسق واحد، وكُتبت في أزمنة مختلفة.