.
منذ نشأتها الحديثة، لم تنفصل الرواية عن الفلسفة، بل كانت امتدادًا سرديًا لها ومجالًا جديدًا للتفكير عبر الشكل الأدبي. استثمر كتّاب عالميون مثل (دوستويفسكي)، و(كامو)، و(سارتر)، و(كونديرا) البنية الروائية بوصفها حقلًا يسمح باختبار الأفكار الكبرى كالهوية، الحرية، الزمن، الجسد، الإيمان، والموت. وفي العالم العربي، اتخذت الرواية منحى فلسفيًا لدى عدد من الروائيين بدءًا من الطهطاوي والمنفلوطي، وصولًا إلى الطيب صالح وإدوار الخراط وواسيني الأعرج، فكانت الرواية تمارس التفكير لا عبر التنظير بل عبر معاناة الشخصية وتداعي الوعي داخلها. وفي رواية “الواعظ” للكاتبة ضحى عبد الرؤوف المل، نجد هذا التلاقي بين السرد والفلسفة في أقصى تجلياته. لا تطرح الرواية حكاية بالمعنى التقليدي، بل تبني فضاءً روحيًا يتأمل فيه الراوي نفسه والعالم من حوله من خلال الذاكرة والرغبة، عبر تيار داخلي لا يخلو من هوس معرفي وقلق وجودي.
تبدأ الرواية من السؤال الجوهري: من أنا؟ فعبدو، الذي يلقب بالواعظ، لا يعرف أصله ولا اسم أمه ولا أباه، وكأن وجوده بدأ من عتمة البئر التي سقط فيها أخوه، ومن ثم قرر أن يهرب ويبدأ حياة جديدة. هو كائن بلا مرجعية واضحة، تتنازعه الذاكرة، وتتشظى صورته عبر الآخرين، وخصوصًا النساء، فلا يجد لنفسه تمثيلًا صادقًا إلا في أعين من يعشقنه أو يحتقرنه. يقول في موضع معبر: “لا أدري من أنا بنظرك؟… أنا أشبه بثور في حلبة من وَهْم يخيل إليه أنه في رياض غناء، فأنتِ حيالي مقفلة تماماً” (355). هذا القلق الوجودي لا يفارقه، بل يتعمق كلما حاول أن يجد لنفسه مبررًا أخلاقيًا أو تاريخيًا.
ويُعلي النص من مقام الجسد بوصفه مركزًا للوعي لا مجرد أداة للمتعة. فالجسد في “الواعظ” هو الذاكرة والرغبة والمعرفة والخطيئة أيضًا. لا يتكلم عبدو عن النساء بوصفهن موضوعات للذة فقط، بل يراهُنّ بوصفهن أدوات وجودية، جسورًا نحو فهم الذات، أو مرآة لما هو مكبوت داخله. يقول: “الجسد هو المحرك… لا نعرف الروح إلا من خلال الجسد. والروح لا موطن لها غيره” (346). وهذه الجملة تمثل نفيًا للثنائية الكلاسيكية بين الجسد والروح، وتعكس تأثرًا ظاهرًا بالفينومينولوجيا الجسدية التي ترى في الجسد منبع الوعي بالعالم لا مجرد وعاء.
أما الزمن في الرواية، فلا يسير وفق خط سردي تصاعدي، بل هو زمن متشظٍ، مفكك، يعيد نفسه في حلقات مغلقة. الماضي يقتحم الحاضر، والرغبة تُبعث من الذاكرة، والآتي لا يحمل أي وعود بالخلاص. فعبدو يعيش اللحظة لا بوصفها حدثًا جديدًا، بل بوصفها تكرارًا لخيبة قديمة أو لذة غامضة. يقول: “الحب صفر في منظومة العلاقة الزمنية… لكنه جيل من أرقام العاطفة” (275). وهنا تصبح العلاقة بين الإنسان والزمن علاقة عبثية، لا خلاص فيها إلا عبر التكرار أو النسيان.
وعلى الرغم من أن عبدو يلقب بـ”الواعظ”، فإن الرواية تقدم له صورة مضادة تمامًا لهذا الاسم أقرب ما تكون إلى “الواعظ الدجال”. فهو يعيش ازدواجية دائمة بين ما يقول وما يفعل، بين وعيه النقدي وخضوعه للغريزة. يتأمل الدين ويشكك في الشعائر، لكنه في الوقت ذاته يبحث عن معنى، أو غفران ما، أو نصّ يبرر عثراته. في لحظة تهكم يقول: “ما هذا التمنع والصد والغموض؟ لص أنا؟… القارئ الذي يخجل من مخاطبة ضميره هل هو أديب؟” (355). في هذه العبارة يتهكم من القارئ نفسه، ومن التلقي الأخلاقي للنص، وكأن “الوعظ” في الرواية عبارة عن قناع هش على وشك السقوط.
ولعل المرأة تمثل في الرواية أكثر من جسد أو حبيبة أو عشيقة. فهي تارة الأم، وتارة المرآة، وتارة المأزق. كل شخصية نسائية في الرواية تكشف جانبًا من عبدو، وتضعه أمام ماضٍ يخاف منه أو رغبة لا يستطيع تلبيتها. يقول: “لا أؤمن بالمرأة، لكن لوجودها في حياتي القدرة على بلوغي المرام… أنا الواعظ عبدو” (299). هذا التناقض البنيوي في موقفه من المرأة يعكس أزمة الرجل العربي أو “الشرقي” عموما الذي يعجز عن رؤية المرأة كذات مساوية، فهو يجعلها أحيانا مصدرًا للنجاة أو سببًا للضياع أحيانا أخرى. وفي كلتا الحالتين، المرأة هي فضاء للفحص والتأمل، كما أنها أداة لسبر الهوية الذكورية المهزوزة.
في المحصلة، تشكّل رواية “الواعظ” نصًا فلسفيًا رفيعًا يتخذ من السرد وسيلة لتفكيك الذات، وإعادة مساءلة القيم، وتعرية الوعي. فالسؤال الوجودي عن الهوية، والاشتباك مع الجسد بوصفه موضحا للمعنى، والارتياب في الزمن بوصفه بناء غير موثوق، وانتقاد النفاق الديني كمنظومة رمزية مأزومة، وأخيرًا حضور المرأة كمرآة للذات، كلها تشكل مداخل فلسفية متداخلة تجعل من الرواية شهادة جمالية على وعي مضطرب في عالم أشد اضطرابا. “الواعظ” ليست فقط تأملًا داخليًا في الحياة، بل هي أيضًا صيغة أدبية لفلسفة تكتب نفسها من الهامش، عبر هشاشة الإنسان، ورغبته الأبدية في البقاء.