ليست كل البدايات تُكتب في المدارس أو تُعلّق على جدران الفصول. بعض البدايات الحقيقية تبدأ حين نُطلق أول خيط في الهواء، وننظر إلى السماء بثقة طفل يُراهن على الريح.
كانت الطائرات الورقية أكثر من مجرد لعبة… كانت مشروع حلم ننسجه بأيدينا، نربطه بخيط المصيص، ونتركه يعلو حاملًا معنا إحساسًا نادرًا بالحرية، لا يشبه شيئًا آخر.
هذه قصة صيف لم يكن يشبه غيره، وزمن كنّا فيه نُحلّق بأبسط الأشياء… وأصدق المشاعر.
تبدأ مراحل صناعة الطائرة من “أول طريق وادي شعيب”، حيث كنا نذهب لجمع عيدان القصيب. نختارها واحدة تلو الأخرى، نمرر أصابعنا عليها لنختبر صلابتها وخفتها، كأننا نختار أعوادًا تتحدى الجاذبية.
نعود بها إلى البيت، ونبدأ العمل كأننا ورشة طيران مصغّرة. ثلاثة عيدان رئيسية تُشكّل الهيكل، ثم نأتي بخيوط “المصيص” لربط الأجزاء معًا بدقة هندسية لا يخطئها طفل عاشق للطيران.
أما الورق، فغالبًا ما يكون من الجرائد القديمة، نقصه بعناية، نثبّته على الهيكل، ونُحكم أطرافه بخليط من الطحين والماء نصنعه بأيدينا ليكون الغراء. رائحته، ملمسه، وحتى بقعه على ملابسنا، كانت جزءًا من طقوسنا.
الذيل أيضًا له اعتبار. كنا نجهّز له شرائط بالية من ملابس قديمة، نربطها واحدة تلو الأخرى في خيط طويل ليُبقي الطائرة متوازنة، يراقصها في الهواء ويمنحها ثباتًا وسط الريح.
كنت مهووسًا بصناعة الطائرات الورقية، لا ألعب بها فقط، بل كنت أُتقن صناعتها. أولاد الحارة والحارات المجاورة كانوا يطلبون مني أن أصنع لهم طائرات مقابل “شلن” للطائرة الواحدة، وكان لكل حجم طائرة مواصفاته الخاصة.
كنت أضبط “الميزان الرئيسي”، أي نقطة التقاء الخيط بجسم الطائرة، وأحسب الذيل بعناية ليوازن الطائرة أثناء الطيران، وكنت أحتفظ بكمية صغيرة من الطين لاستخدامها عند الحاجة لتثبيت أو تعديل شيء ما في الطائرة.
كل مرة كنت أُطلق طائرتي في السماء، من منطقة “المحورة” بـ”واد الأكراد”، إلى أن تصل فوق منطقة “العيزرية”، آخر مدى لخيط كُبّة المصيص، كنت أشعر وكأني أُطلق جزءًا من روحي معها. كانت تطير، وأنا أُحلّق معها، نُحلّق فوق أسطح البيوت، نعلو فوق الأزقة، والشوارع، ونترك هموم الطفولة – إن وُجدت – على الأرض.كنا نسمع صراخ الأولاد حين كانت الطائرة تُحلّق عاليًا، يصرخون: “أعطِيها! أعطِيها!”، ويقولون: “انتع! انتع!” حين يخفّ الهواء أو تنخفض الطائرة أو تضرب رؤوس اثناء الطيران
ما زلت أذكر طائراتي الورقية أكثر من كثير من دروسي. لم تكن مجرد ألعاب، بل كانت رموزًا للحلم، والحرية، والإبداع. علمتنا تلك الطائرات كيف نصنع الفرح من أشياء بسيطة، وكيف نُحلّق عاليًا دون أجنحة.
في العطلة الصيفية، لم نكن نلعب فقط… كنا نبني أجنحة، ونحلم، ونُحلّق… على أنغام أغنية فيروز:
“طيري يا طيارة، طيري يا ورق وخيطان.”