المقدمة:
في فيلم سوبرمان (1978) للمخرج ريتشارد دونر، يُحلّق البطل نحو الشمس، يختفي للحظة، ثم يعود ليُثبت نظره في عين الكاميرا، بعينيه الزرقاوين وابتسامته الآسرة. لم تكن تلك النظرة وداعًا، بل وعدًا صامتًا بالحماية، رسالة بصرية تقول: إن الخير موجود، وإن هناك من يُراقب، يَحرس، ويتدخّل في اللحظة الحاسمة.
تجلّت في تلك العينين صورة الحلم الأميركي كما رسمته هوليوود: بطل خارق، نقي، قادم من خارج الأرض، لكنه وحده من يحق له إنقاذها. صورةٌ رومانسيةٌ جميلة، وكم عبث الجمال بمشاعرنا.
لكن منذ أن انهارت السرديّات الكبرى، وسيطرت الرأسمالية الرقمية على العقول والسلوك، لم يعُد سوبرمان يبتسم. صار يطلّ بجشعة، لا بوعده، ويستعرض ساديته دون اكتراث، لأنه يعلم أن لا أحد يملك شجاعة مواجهته.
تشوّهت ملامح الجمال. كانت الثقافة مرادفًا للحب، وكانت الكتب تُقرَأ في الزوايا المعتمة، بين مكتبة وحلم، بين قصيدة وحبيبة تنتظر حبيبها المثقف. أما اليوم، فقد تفتّتت المعرفة، وصارت الثقافة “محتوى”، والمثقف “صانع محتوى”. جلس رجل بلحية كثيفة أمام الكاميرا، يهاجم المؤثرين، يعلو صوته، تهتز صورته… لكنها صورة معدّة بعناية، خاضعة لمنطق السوق ذاته الذي ينتقده.
في المقابل، تبرز “المؤثرة” بخفّة مدروسة، بابتسامة تُتقن الكاميرا اصطيادها، وبجسدٍ لا تتردّد العدسة في استعراضه تحت ذريعة “العفوية”. لا تحتاج إلى عمق، بل إلى زاوية تصوير وإضاءة مثالية. تقدّم وصفة سريعة للسعادة، أو نصيحة نفسية على هيئة حكمة. تقول: “لتحقيق السلام الداخلي، رشّ قليلًا من الملح تحت السرير”… فيُصدّقها الآلاف.
بينما يختنق صوت المثقف الجادّ تحت ركام السخرية، لأنه لا يملك وصفة جاهزة، ولا جسدًا قابلًا للاستهلاك.
فهل يمكن أن نستعيد صورة المثقف لا كمؤدٍّ غاضب، ولا كنجمٍ رقمي، بل كصوت جمعيّ يبحث عن سردية جديدة؟ أم سنكتفي بأن نترك الأمور على أعنّتها؟
صورة المثقف الرومانسي:
ربما ما زلت تذكر ذلك الشخص الذي أوقد فيك شعلة الفضول. كان الثائر الذي يسأل: لماذا؟ وكيف؟ وإلى أين؟ لا يهدأ، ولا يقنع بالمألوف. بدا تارةً شاعرًا، وتارةً ثائرًا، وتارةً شيخًا متصوفًا. اختصر وجوهَ قرنٍ كامل، حيث نافذة الكلمة وحدها كانت تُطلّ على العالم.
في القرن العشرين، تجسّدت رمزية المثقف في أسماء صار لها وقعٌ رمزيٌّ عابر للثقافات.
جان بول سارتر قدّم المثقف بوصفه “ضمير المجتمع”، ملتزمًا سياسيًا وأخلاقيًا في وجه الظلم والعبث.
إدوارد سعيد أعاد تعريف موقع المثقف باعتباره “منفيًا اختياريًا”، ينأى بنفسه عن السلطة ويصطفّ دائمًا مع الضحية، لا مع المنتصر.
أما أنطونيو غرامشي، فقد صاغ مفهوم “المثقف العضوي”، الذي لا يعيش في برجٍ عاجي، بل ينبثق من واقع الناس، ويعمل على تشكيل وعيهم من داخل البُنى المهمّشة.
كان المثقف آنذاك صورة متخيّلة لحبيبٍ في الظل، عاشقٍ للفكرة لا للواجهة، وثائرٍ لا يحمل سلاحًا سوى كتاب. كانت القراءة طقسًا نقيًا، والمكتبة معبدًا للفكر والتغيير، حيث تتقاطع الذات بالعالم، وتتشكّل الأحلام على هيئة مشروعٍ ثقافيٍّ ينشد العدالة والوعي.
الثقافة الرقمية وتفتّت الهيبة:
مع دخولنا زمن الوسائط الجديدة، تغيّرت قواعد اللعبة. لم تعد الثقافة نخبويّة، بل صارت مشاعًا عامًا. من يملك الشاشة يملك الجمهور، لا بالضرورة من يملك الرؤية.
تراجعت السلطة الرمزية للمثقف، وتحولت المعرفة إلى سلعة تُنتَج وتُستهلك رقميًا. كل أحد يكتب، وكل رأي قابل للانتشار. مواقع التواصل خطفت المنبر من يد النخبة وأعطته لصاحب المتابعين، لا لصاحب الفكر المتين.
هكذا برز ما يسمّى بـ”المثقف الرقمي”، الذي يصوغ فكرته في مقاطع قصيرة، أو بودكاست، أو منشورات تلامس العاطفة أكثر مما تلامس العقل. وسّعت هذه الوسائل دائرة التعبير، لكنها أضعفت التمييز بين الرأي والموقف، بين الضجيج والمعنى.
هذا يطرح سؤالًا ملحًّا: هل المثقف اليوم مطالبٌ بأن يتمرّن على أدوات السوق ليصل؟ أم يتمسّك بجذوره في الكتاب والحوار الهادئ ويقبل التهميش؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تبدأ من إدراك خطورة هذا التفتّت المعرفي، حيث تختلط الأصوات وتضيع البوصلة.
المثقف في زمن المؤثرين:
لم يعد المثقف حاضرًا في قاعة الدرس أو بين دفّتي كتاب، بل ينافس في الفضاء الرقمي، بين المؤثرين وصانعي المحتوى. أولئك الذين يصيغون رسائلهم في دقائق معدودة، ويجذبون المتابعين بجاذبية الأسلوب، لا عُمق المضمون.
ماذا تصنع في وقت القيلولة؟ أو قبيل الوقت المخصص للنوم؟
هل تقلّب المقاطع المرئية الصغيرة المتنوعة، بين معلومة ونكتة وموسيقى؟ أم تخصص جزءًا من الوقت لمتابعة بودكاست (Podcast) أو فودكاست (Vodcast) معيّن؟
هذه المصطلحات التي بتنا نسمعها يوميًا تعبّر عن أنماط جديدة من التلقي، وأنماط جديدة من الإنتاج أيضًا. فكلّ دقيقة من صوت أو صورة يقدّمها صانع محتوى، هي جهدٌ شخصي، وخبرة، ووقت. ومع ذلك، تضيع الحقوق في زحام النقرات: يُقتبس المحتوى بلا إذن، يُعاد نشره دون إشارة، وتُنتَهك الملكية الفكرية في الفضاء الرقمي كأنها لا مرئية.
وهكذا، بين مستهلك لا يسأل، ومنصّة لا تحمي، وصانع لا يُنصف، تتآكل الحدود بين المشاركة والسرقة، بين الإلهام والانتحال.
في هذا السياق، يبرز التحدي الأكبر: كيف يمكن للمثقف أن يظل صوته مسموعًا دون أن يتحوّل إلى نسخة “مؤثرة” من نفسه؟ وهل الموازنة بين عمق الفكر وخفة التقديم ممكنة فعلًا في زمن تُقاس فيه القيمة بعدد التفاعلات؟
كما لا يمكن تجاهل الأثر الذي يتركه سهولة الاطلاع على المحتوى الرقمي، على القارئ للكتاب، تغريه وتجذبه حتى يترك الكتاب التقليدي و ينبذه.
القراءة لم تكن يومًا نقيضًا للفعل، بل هي شرطه الأول. حتى المثقف العضوي، المنخرط في قضايا الناس، لا ينبثق من فراغ، بل يتشكّل وعيه في لحظة صامتة أمام كتاب. فالقراءة هنا ليست ترفًا ولا انعزالًا، بل فعل ثقافي يُخصب الممارسة، ويمنحها عمقًا وامتدادًا. إنها المسافة التي تفصل بين ردّ الفعل والتفكير، بين الانفعال والموقف.
من الزراعة إلى السوق:
من اللافت أن كلمة Culture في أصلها اللغويّ الإنكليزي تُشير إلى الزراعة، وإلى فعل الحراثة. فكأنّ الثقافة هي غرسٌ للعقل، ورعايةٌ للمعنى، لا مجرّد استهلاك عابر.
قد تكون هذه الإشارة البسيطة مفتاحًا لفهم التحوّل. لقد كانت الثقافة، قديمًا، ضربًا من التهذيب الذاتي والتراكم البطيء، أما اليوم فهي مرهونة بلحظة العرض. نعيش في زمن صارت فيه الفكرة صورة، والكتاب مقطعًا، والمكتبة خلفية تصوير، لا منبع فكر.
في المشهد المعاصر، تتجاور ثلاثة أنماط من المثقفين:
المثقف التقليدي، الذي ينتمي لمؤسسات أكاديمية أو دينية.
المثقف العضوي، الذي يعبّر عن معاناة الناس من قلب الواقع.
والمثقف الرقمي، الذي يجيد أدوات العصر، ويتفاعل مع جمهوره عبر الشاشات.
لكن هذه التعددية، التي كان يفترض أن تكون ثراءً، كثيرًا ما تُفرغ من معناها حين تتحوّل إلى أداءٍ استعراضيّ، وتضخّم ذاتيّ، وتنافسٍ على الأضواء. حينذاك، تصبح الثقافة عرضًا فرديًا، لا نسيجًا مشتركًا، وتصبح الكلمة مطيّةً للصورة، لا العكس.
الخاتمة:
يحلو للبعض أن يعرّف المثقف بأنه “يعرف شيئًا عن كل شيء”. لكن في عصر التخصص والانشطار المعرفي، لم يعد ذلك ممكنًا. ومع ذلك، فغياب النموذج الشامل لا يعني زوال الدور الأخلاقي والفكري للمثقف.
المثقف لم يختفِ، بل تماهى مع تحوّلات عصره. تغيّرت وسائله، وأدواته، وصورته. لم يعد وسيمًا في عمق فكرته، بل في بريق صورته. لم يعد يقف على أطراف النار، بل أمام عدساتها.
أيها المثقف، قد لا تصمد هيئة “حارس الغابة” أمام جمال الاصطناع وخطوط “أحمر الشفاه”، لكن التحدي لا يكمن في البقاء، بل في البقاء أصيلًا. أن تكون ناقدًا لا مقلدًا، وأن تصنع أثرًا لا مجرّد حضور.
ربما لم نعد نرى تلك الفتاة التي تنتظر صديقها الثائر في المكتبة، لكننا نلمح ظلّها في مقهى صغير، تقرأ وسط ضجيج الإشعارات. لا تزال هناك أقلام تسأل، وعقول تقلق، وأرواح تبحث عن المعنى في زحام السطحيات.
في زمن الصورة، قد لا تنتصر الكلمة فورًا… لكنها، في النهاية، وحدها التي تبقى.