حماس وخطاب الهروب من المسؤولية.. عبدالله بني عيسى

لا يختلف اثنان على أنّ ما يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم يُعدّ مأساة غير مسبوقة في العصر الحديث، وأنّ إسرائيل قدّمت للعالم كل الأدلة على وحشيتها وبشاعتها وتجاوزها لكل القوانين والأعراف الدولية في الحروب. ولا أحد يجادل أيضاً على أن الفعل العربي الاستراتيجي يعاني من مشكلات متعددة، لكن هذا الإدراك لا يعفي حركة حماس، من مسؤولية الفشل السياسي والعسكري الذي قاد إلى هذه الكارثة الإنسانية.
في خطابه الأخير أمس، قدّم خليل الحية، رئيس حركة حماس في قطاع غزة، نموذجاً صارخاً لخطاب الهروب من المسؤولية. فحمّل الشعوب العربية والإسلامية مسؤولية ما يجري، وموجهاً لوماً وعتباً لا يخلو من التحريض، خاصة تجاه الأردنيين، داعياً إياهم إلى الخروج على إرادة دولتهم التي اختارت، بحكمة ومسؤولية، النأي عن مواجهة عسكرية مباشرة، واختارت أمنها واستقرارها، في موازاة تقديم الدعم الكامل سياسياً في كل المحافل الدولية، وعبر تقديم المساعدات الغذائية والطبية للمكلومين في القطاع.
يحاول الحية التنصل من المسؤولية عن المجاعة والدمار والتشريد في غزة، وإلقاء تبعات ما حدث على الأردن ومصر والأمة العربية والإسلامية. يتجاهل أن حركته، حين قررت تنفيذ عملية السابع من أكتوبر، لم تستشر أحداً من هذه الأطراف، فلماذا تأتي اليوم لتطالبهم بلملمة نتائج الكارثة التي صنعتها حماس بقرار أحادي الطيش؟.
الحية يغض الطرف عن واقعٍ لا يمكن إنكاره: استمرار حماس في احتجاز الرهائن الإسرائيليين، الأمر الذي يُفقد القضية الغزيّة الكثير من التعاطف العالمي، خاصة في الغرب، ويتيح لإسرائيل ذريعة لمواصلة حربها الوحشية. كان الأجدر بالحركة أن تتخلى عن هذه الورقة، بتسليم الرهائن إلى مصر أو السلطة الفلسطينية، وأن تنتزع بذلك الذريعة من يد إسرائيل ومن أفواه القوى الدولية المترددة في إدانة المجزرة والتجويع.
كما أن وصف الحية لعمليات الإنزال الجوي للمساعدات بأنها “مسرحية هزلية” يمثّل طعنًا مباشراً في الجهد الأردني، الذي كان السبّاق إلى تنفيذ هذه المبادرة الإنسانية. فالأردن أوضح مراراً أن هذه الإنزالات لا يمكن أن تحل مشكلة الجوع في غزة، لكنها تعكس أقصى ما يمكن القيام به في ظل القيود الإسرائيلية الخانقة. تجاهل الحية أيضاً أن الأردن كان، وما يزال، من أوائل دول العالم المتأهبة لاقتناص أي فرصة لإدخال المساعدات إلى غزة، متحمّلًا في سبيل ذلك جميع أشكال المعاناة والتحديات في التعامل مع العراقيل الإسرائيلية، ومستثمراً في العلاقات الدبلوماسية الواسعة التي بناها استنادا إلى نهجه العقلاني السلمي في حل المشكلات.
يستحضر الحية في خطابه فزاعة “الوطن البديل” ويحذر من التهجير، لكنه يتجاهل حقيقة مفزعة: إنّ ما فعلته حماس في 7 أكتوبر كان هو الشرارة التي أيقظت مشاريع التهجير وجعلت بعضها قابلاً للتحقق للمرة الأولى، بعدما كانت مجرد أحلام في عقول المتطرفين في اليمين الإسرائيلي.
إنّ خطاب الحية الأخير ليس سوى دليل جديد على انفصال الحركة عن معاناة أهل غزة، وعلى استمرارها في المراوغة رغم إدراكها أنّ مصير وجودها في القطاع بات محسوماً، وأنّ مستقبل غزة لن يكون فيه مكان لحماس بصورتها الحالية.
كان الأجدر بالحركة أن تختار الانسحاب من المشهد الغزّي، إنقاذاً لما يمكن إنقاذه من الأرواح، بدلاً من الإصرار على إبقاء غزة بسكانها المليونين المعذبين والمجوعين رهينة حساباتها الأنانية. لقد قال الحية كلاماً متجاوزاً للواقع والحقائق على الأرض، وفيه تجرؤ واضح على الأردن ومحاولة لتحميله أعباء كارثة لم يتسبب بها.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لا بد من التعبير بصراحة عن المواقف دون تردد. فالمأساة الفلسطينية لا يمكن معالجتها بخطابات العتب والتحريض، ولا بتكرار الأخطاء القاتلة نفسها، بل بمصارحة الذات والاعتراف بالفشل، وفتح الطريق أمام حلول تعيد للشعب الفلسطيني حقه في الحياة الكريمة بعيداً عن الشعارات الجوفاء والمغامرات غير المحسوبة.