دروس في التضامن ووحدة الصف: عبر من تاريخ إسرائيل ويهودية الدولة وتأملات في التجربة الأردنية.. بقلم: المهندس سعيد بهاء المصري

 

في التلمود، هناك مبدأ محوري يعكس النظرة القبلية أو “الأخوية” لليهود تجاه بعضهم البعض، يُعرف بعبارة “كل إسرائيل شركاء”، أي أن جميع اليهود مسؤولون عن بعضهم البعض. هذا المفهوم يُفسَّر أحيانًا على أنه نوع من العصمة الجماعية أو التواطؤ الداخلي المشروع، الذي يسمح بالتغاضي عن أخطاء اليهود تجاه بعضهم البعض، مقارنة بالتعامل مع غير اليهود.

أولًا: التلمود ووحدة الجماعة اليهودية

– التمييز في المحاسبة: تُظهر بعض التفاسير التلمودية أن اليهودي الذي يسيء ليهودي آخر لا يُحاسب بنفس الصرامة كما لو أساء لغوي.
– التحكيم الداخلي: يُفضل حل النزاعات داخل المجتمع اليهودي عبر المحاكم الدينية الخاصة، لا المحاكم المدنية، حتى في الجرائم الكبرى.
– العقوبة الأخف تجاه الجرائم: بعض النصوص تُبيح تخفيف العقوبة إن كان الجرم ضد يهودي آخر، أو ضد غير يهود، خاصة في المدارس الأرثوذكسية المتشددة.

وقد تجلى هذا المبدأ بصورة واضحة في قضية قاتل إسحاق رابين، حيث لم ينبذه المجتمع الديني المتشدد، بل وجد من يحتضنه داخل إسرائيل، رغم أنه قتل رئيس وزراء في اغتيال سياسي خطير.

ثانيًا: هل يمكن أن نستخلص عبرًا من هذا النموذج؟

رغم أن المبدأ التلمودي يحمل طابعًا تمييزيًا يتنافى مع قيم العدالة الكونية، إلا أنه يُظهر قوة التضامن الداخلي كأداة بقاء واستمرار سياسي.
لقد وظفت إسرائيل هذا المبدأ بنجاح لبناء دولة قومية لليهود من مختلف الأعراق، تحت شعار واحد: “نختلف داخليًا، لكن نتوحد أمام الخارج”.

ثالثًا: النموذج الأردني… تسامح سياسي أم رصيد وطني؟

في الأردن، هناك نزعة مشابهة — ليست دينية، بل أخلاقية وسياسية — تسعى لاحتواء التباينات والخلافات الداخلية بالحوار والتسامح، دون اللجوء للقمع أو الإقصاء.
ورغم التحديات الكبيرة، حافظت القيادة الهاشمية على وحدة الجبهة الداخلية من خلال استيعاب الأصوات المعارضة، وتفادي منطق تصفية الحسابات السياسية.

لكن، كما هو الحال مع التلمود، يجب الحذر من أن يتحول التسامح إلى تهاون، أو أن يُفهم الاحتواء على أنه ضعف.
فالوحدة الوطنية لا تعني التواطؤ، ولا يجوز أن تكون غطاءً لمن يتربص بالدولة من داخلها.

رابعًا: تضامن الأردنيين… خيار ناضج لا عاطفة لحظية

إن الالتفاف الشعبي حول الدولة في الأزمات الكبرى (كجائحة كورونا، أو العدوان على غزة، أو الضغوط الاقتصادية) يُظهر أن المجتمع الأردني يمتلك نضجًا سياسيًا عاليًا، يؤمن بأن وحدة الصف هي خط الدفاع الأخير.
لكن هذه الوحدة تتطلب إدارة حكيمة من الدولة: حزم مع من يتجاوز القانون، واحتضان لمن يعارض برؤية وطنية.

خامسًا: مناعة الدولة تأتي من ثقة الناس

الدول لا تسقط بالقوة العسكرية، بل عندما تفقد قدرتها على خلق الثقة بين المواطن والدولة.
ولذلك، فإن الحفاظ على التضامن الوطني الأردني يتطلب:
– عدالة نزيهة تطبّق على الجميع.
– شفافية في القرار السياسي والاقتصادي.
– احترام التعدد والتنوع داخل المجتمع.

نختم بالقول:

مثلما وظفت إسرائيل مبدأ “كل إسرائيل شركاء” لبناء كيان موحد رغم التناقضات، فإن الأردن يمتلك فرصة فريدة لبناء وحدة صف وطنية قائمة على عقد اجتماعي حديث، لا يقوم على التمييز أو العصبيات، بل على قيم المواطنة والعدالة والانتماء المشترك.