مقدِّمة
يسيرُ متكئًا على ذراعِ شابٍّ يكادُ أن يرفعهُ من فَرْطِ قوّته، بينما تسندهُ شابّةٌ من الجهةِ الأخرى، تمسكُ بيده وتضعُ الأخرى بلطفٍ على عنقه كجَناحِ حمامة.
“مَن هذان؟” يسألُ نفسَه بدهشة، “مَن هما؟” ينظرُ إلى وجهِ الشاب… أهو ابني؟ أهي ابنتي؟
ــ إلى أين تأخذُني؟
إلى الحمّام، بابا. ــ يجيبهُ الشابُّ برِقّة.
يرتبكُ الشيخُ، “بابا؟ أنا؟”
ــ متى سيكونُ الغداء؟
تجيبهُ الشابّة بابتسامةٍ حنونة: بعد الحمّام سنقدّمُ لكَ الشايَ والكعكَ الذي تحب، لقد تناولنا الغداءَ قبل قليل.
ينسحبُ من الحاضر، ويسحبهُ تيّارُ الذكريات… طفلٌ يركضُ نحو امرأةٍ تفتحُ ذراعيها، يصرخُ: “ماما!”
ــ أين ذهبتْ أمي؟
تنظرُ الفتاةُ إلى أخيها، وتُقاومُ دمعةً في عينيها.
ــ بابا…
ولا تُكمِل.
هذا ما ينتظرُ الأبَ في شيخوخته، حين يعيدهُ الخَرَفُ طفلًا لا يعلمُ من الدنيا شيئًا. مصداقًا لقوله تعالى:
“وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَي لا يَعلَمَ مِن بَعدِ عِلمٍ شَيئًا…”
الأبُ والشيخوخةُ: قراءةٌ في فيلم The Father
يُقدِّمُ فيلمُ The Father (2020)، من بطولةِ أنتوني هوبكنز، أحدَ أكثرِ التَّجسيداتِ المؤلمةِ والإنسانيةِ لفكرةِ الأبِ الذي يتلاشى تدريجيًّا بفعلِ الخَرَف. لا يكتفي الفيلمُ بعرضِ معاناةِ الأب، بل يُدخِلُ المُشاهدَ مباشرةً إلى داخلِ وعيهِ المُشوَّش، حيث تتبدّلُ الأماكنُ والوجوهُ والألوان، وتختفي التفاصيلُ تدريجيًّا كما لو أنّ العالمَ من حولهِ يتآكَل.
من جملتِه المتكرّرة: “أنا لن أُغادرَ شقّتي!”، يتشبّثُ أنتوني بوَهْمِ الاستقرار، بينما تتغيّرُ الجدرانُ والأثاثُ والوجوهُ من حوله، ليغرقَ المشاهدُ مثلَه في ارتباكٍ حادٍّ بين ما يبدو حقيقيًّا وما هو وَهْم.
يتبدّى هذا بوضوحٍ في المشاهدِ المتتاليةِ للفيلمِ الذي لا يُقدِّمُ الأحداثَ بطريقةٍ تقليدية، بل يعتمدُ على التوتّرِ البصريِّ والانفعالي، ويعتمدُ على وعيِ المتفرّجِ لربطِ أجزاءِ اللغز.
هنا لا يكونُ المُشاهدُ شاهدًا من الخارج، بل شريكًا في الضياع، يُجبَرُ على جمعِ أجزاءِ الأحجيةِ من خلالِ الشكِّ والتأويل، مثلما يُحاولُ الأبُ نفسُه أن يفهمَ ما يحدثُ له.
وفي قلبِ هذا الانهيارِ التدريجي، تظهرُ الابنةُ آن كصوتِ الحبِّ الممزوجِ بالعجز، تُحاولُ احتواءَ والدِها الذي لم يعُدْ يتعرّفُ إليها أحيانًا، وتراه يتحوّلُ من رمزٍ للقوّةِ إلى شخصٍ غريبٍ يحتاجُ للرعاية.
ويزيدُ الغموضُ كثافةً حين يسألُ أنتوني مرارًا عن ابنتِهِ الأخرى “لوسي”، التي لا تظهرُ أبدًا، كما لو كانت ذكرى مؤلمةً تمّ محوُها من محيطه، لكنها بقيت حيّةً في أعماقه.
نظراتُهُ المتكرّرةُ من النافذةِ إلى أطفالٍ يلعبون في الحديقة، وصرختُهُ الموجعةُ: “مَن أنا بالضبط؟”، تُمثّلان ذروةَ الانكسارِ وفقدانِ الذات، لكنَّ الأشدَّ إيلامًا هو تمسّكُه بما تبقّى من كرامتِه وسطَ هذا التّشظّي.
بهذهِ الرؤيةِ المتقنة، ينجحُ الفيلمُ لا في تصويرِ الخَرَف فقط، بل في محاكاتهِ دراميًّا وفنيًّا، مُجسّدًا ما يمكن تسميتُه بـ”الفقدِ الحَي”، حيثُ يغيبُ الأبُ قبل أن يرحلَ فعليًّا.
لا عجبَ أن نالَ الفيلمُ جائزةَ أوسكار لأفضلِ ممثّلٍ وأفضلِ سيناريو مُقتبَس، فقد أعادَ تعريفَ تجربةِ المشاهدةِ نفسِها، من فعلِ رُؤيةٍ إلى فعلِ مُعايشة.
الأبُ المُرشِدُ حين يتقدَّمُ بهِ العُمر
بعد أن رأينا صورة الأب في السينما، ننتقل إلى الشعر حيث تتجلى صورة الشيخ الكبير بصوت مختلف، في قصيدتِها “هللويا” (Halleluiah)، تُعبّرُ ماري أوليفر عن مشاعرِ الإنسانِ العجوز، الذي عاشرَ الحياةَ بكلِّ تقلّباتِها، وكافحَ حتى بلغَ عمرًا تجتمعُ فيه الحِكمةُ بالتّعب، والسّكينةُ بشيءٍ من الحزنِ الجميل.
تفتتحُ القصيدةُ بإعلانِ الامتنانِ رغمَ صعوبةِ الرحلة، وكأنّها تقول:
> هللويا، على أيّ حال، لم أعدْ في المكانِ الذي بدأتُ منه!
كلماتٌ تختصرُ مسيرةً طويلةً من البحثِ عن السعادةِ والرّضا، بعد أن أدركتْ أنّ لا شيءَ مهمٍّ يحدثُ بسهولة، خاصّةً في العقودِ السّتةِ الأولى من الحياة.
ثم تُعبّرُ عن لحظاتٍ نادرة، يستعيدُ فيها الإنسانُ دهشتَه الأولى أمامَ العالم، ويتأمّلُ لُطفَ الناسِ كما لو كانَ يكتشفُهُ للمرةِ الأولى:
> أنسى أحيانًا كمْ هذا العالمُ مُدهش،
وكم يمكن لبعضِ الناس أن يكونوا طيبين بشكلٍ مُعجِز؟
وفي النهاية، تقفُ على أعتابِ الستّين، لا لتندبَ مرورَ الزمن، بل لتحتفلَ بشعورٍ داخليٍّ جديد، كأنّ الشيخوخةَ منحتْها خفّةَ روحٍ لم تكن تملكُها من قبل:
> هللويا، لقد بلغتُ الستّين، بل تجاوزتُها قليلًا،
وفي بعضِ الأيام أشعرُ وكأنّ لي أجنحة.
إنهُ شعورُ الشخصِ الكبيرِ في السّنِّ حين يتأمّلُ ما مرّ به، ويُصالحُ نفسَه مع الطريق، وكأنّ النضجَ جائزةٌ تأخّرتْ لكنها جاءت، محمّلةً بتسامحٍ وسلامٍ داخلي…
لكنّه سلامٌ هشّ، يبدأُ بالتصدّعِ شيئًا فشيئًا.
تبدأُ الشيخوخةُ كهمسٍ خفيف: نسيانٌ متكرّر، حكاياتٌ يُعيدُها الأبُ مرارًا وكأنّها تُروى للمرةِ الأولى، تبرُّمُهُ حين يُسأل، ودهشتُك حين تلاحظُ ما تغيّر.
تراهُ ينتظرُ أحفادَهُ ليلاعبَهم، يتمسّكُ بصندوقِه القديم، يُقلّبُ مجلّاتٍ صفراءَ وأشياءَ لم تعدْ ذاتَ قيمةٍ إلّا في عينيه.
تجدُه مرّةً جالسًا داخلَ خزانةِ الملابس، تسأله:
“ماذا تصنعُ هنا يا أبي؟”
فيُجيبكَ بانزعاج:
“مرّوا من أمامي ودخلوا هنا، فلحقتُ بهم.”
حينها تُدركُ أنّ الحدودَ بين الحُلمِ والواقعِ بدأتْ تتلاشى…
وتهمسُ في قلبِك: لقد شاخ أبي.
ثم يبدأُ شريطُ الذكرياتِ في عقلِك يُعيدُ تشكيلَه:
أكانَ هذا هو البطلُ الذي أنارَ طفولتي؟ شمسي التي كنتُ أستظلُّ بها؟
كمْ تمنّيتُ أن أطولَ قامتَه، أن أمتلكَ قوّةَ ساعدِه، أن أُتقنَ حِيله الصغيرة.
لكن الآن، لم يعُدْ يقوى على ممارسةِ أبسطِ المهامِّ اليوميّة، وتتسرّبُ كرامتُه شيئًا فشيئًا، دون أن يُدركَ أو دون أن يُريدَ أن يُصدِّق.
وهنا ينهضُ السؤالُ المؤلم:
هل سأُوسّدهُ التّرابَ قريبًا؟
هل سأعيشُ بعدَهُ وحدي؟
تلك هي الدورة الطبيعية للحياة، تسقط الورقة الصفراء وتترك مكانا لورقة صغيرة خضراء أجمل و أقوى و أكثر حيوية. لكنّه ترتيبٌ لا نحبُّ الحديثَ عنه.
يصمتُ المجتمعُ عن الشيخوخةِ حتى تصيرَ أزمةً شخصية.
وفجأةً، تجدُ نفسَك في قلبِ المأساة: تُشاهدُ أبوَيكَ يتدهوران، وتُدركُ أنك لا تملكُ حلًّا سوى أن تُواكبَ السّقوطَ بصمت.
تحاولُ تأخيرَ النهاية، تُطيلُ الأعمارَ بالدعاءِ والدّواء، كأنّك تُريدُ ربطَهما إلى الأرض، خشيةَ أن تأخذَهما منك الرّيح.
وهما يُخاطبانك بلا صوت:
دعنا… واتركنا نرحلْ بسلام.
صورةُ الأبِ الواقعيِّ: لحظةُ تعليمِ الطّفلِ ركوبَ الدّرّاجة
لا تأتي لحظة الفطام عن يد الأب دفعةً واحدة. قد تطول رحلة المعاناة، لكنها في النهاية تنتهي به، وتبدأ بك رحلة جديدة.
ستأتيك تلكَ اللحظةُ التي تملكُ فيها حريةَ العبثِ بصندوقِ والدِكَ القديم.
تفتحُ غطاءه، ينتابُك إحساسٌ بالخشيَةِ والقداسة، كأنّك تدخلُ مقامًا مقدّسًا من ذاكرةِ العائلة.
في زاويةٍ منه، تكتشفُ صندوقَ أحذيةٍ تملؤهُ صورٌ فوتوغرافية، بعضُها بالأبيضِ والأسود، تُغطّي فتراتٍ طويلةً من حياةِ والدِكَ.
صورةٌ لهُ بسوالفَ طويلةٍ وشعرٍ مُصفَّفٍ بطريقةِ “البيتلز”، الموضةِ الدّارجةِ في سبعيناتِ القرنِ الماضي، ينظرُ فيها بنظرةٍ تتقدُ بالأملِ والسخرية.
ربّما كانت حفلةً ذات مساء، أو مغامرةً شبابيّة.
يُهاجمُك إحساسٌ يختلطُ فيه مذاقُ الذكرياتِ الحُلو ومرارةُ الفقد، حين تقعُ عينُكَ على صورةٍ لك، تركبُ دراجتَكَ الأولى في الحديقةِ العامة.
تحاولُ سياقتَها مُترددًا، تميلُ، فيُمسكُ بكَ والدُكَ، يمنعُكَ من السّقوط.
كانَ يركضُ بجوارِك، بطلُكَ الأوّل، لا يركبُ الدراجةَ عنك، بل يُسندُكَ لتتعلّمَ التوازنَ وحدكَ.
في تلكَ اللحظة، لم يكن يُعلّمكَ ركوبَ الدراجةِ فقط، بل كيفَ تنهضُ حينَ تميل، كيف تُوازنُ بين الخوفِ والحريّة، وكيف تجرؤُ على الطيران.
هنا أحسستَ أنَّ أبي غابَ ولن يَغيب، فهو في دُنيَايَ آثارُه، بتُّ ألمسُها في كلّ شيءٍ حولي.
تبتسمُ بحزنٍ وأنتَ تُقلّبُ صورًا أُخرى:
واحدةٌ تجلسانِ فيها معًا على رصيفِ الميناءِ، كلٌّ منكما يُمسكُ بصنّارتِه في جلسةٍ طويلةٍ هادئة، يقتلُكَ فيها الملل، ويصبرُ هو على الوقت.
وأخرى يُعلّمُكَ فيها السباحة، وثانيةٌ يُلقي إليكَ بالكرة.
تتساءل: أهذا ما كنتَ تكنزُه يا أبي؟
تنتبهُ لحُزمةِ أوراقٍ قديمة، رسائل، شهاداتِ ميلاد، ومن بينها رسوماتٌ بالرصاص، تعرفُ فيها محاولاتِكَ الفنيةَ الأولى.
لم تكن تُلقي بشيءٍ إلى سلّةِ المهملاتِ يا أبي.
حتى خرائطَ طفولتي الصغيرةِ احتفظتَ بها، وكأنّك كنتَ تؤمنُ بأنّها تستحقُّ البقاء.
صندوقُ والدِكَ القديمِ ليس مجرّدَ متعلّقات، إنّه متحفٌ يجمعُ شذراتٍ من تاريخِ العائلة، أحزانًا وأفراحًا صغيرة، لحظاتِ سندٍ وخوفٍ، تعلُّمٍ وانطلاق.
يدخلُ طفلُكَ عليكَ يحملُ طائرتَهُ الورقية:
ـ هل ستخرجُ معي لنلعبَ بالطائرةِ يا أبي؟
تلملمُ ما تبعثرَ من مشاعرَك، وتُعيدُ ترتيبَ الأشياءِ في الصندوق.
لقد أصبحَ صندوقُكَ أنتَ الآن، وستكونُ لكَ معهُ طقوسٌ خاصّة.
تُضيفُ إليهِ صورًا جديدة، ليجدَ فيهِ ولدُكَ قطعًا من حياتِكما معًا في المستقبل، كما وجدتَ أنتَ قطعًا من ماضيكَ…
خاتمة
تُحيطُ بكَ أغانٍ قديمةٌ من عهدِ صباك، موسيقى بإيقاعٍ مختلفٍ كانت تُعدُّ يومًا ما شبابية، تجمعُكَ بأصدقائِكَ الذين صاروا آباء، أبطأتْهم كُروشُهم، ومشاكلُهم الصحيةُ “البسيطة”.
لولا عنادُهم، لسكنوا منذ زمنٍ طويل.
ثمّ تنظرُ إليه… الأب.
هو المُعلّمُ الأوّل، والرّفيقُ الأوّل، لكنّه أيضًا أوّلُ من يُعلّمُكَ معنى الفقدِ التدريجيّ.
بين السينما والشعرِ والصورةِ الواقعيّة، يبقى الأبُ حضورًا ممتدًّا في الذاكرةِ والوجدان: لحظةُ دعم، يدٌ حانية، أو ذكرى نسترجعُها لنُكمِلَ الطريق.
ونحن نمضي وحدنا، نحملُ شيئًا من قوّتِه، وكثيرًا من أثرِه في قلوبِنا.
سعيد ذياب سليم