تظهر صور وفيديوهات قديمة وسط البلد في عمان وهو في أبهى حلته؛ شوارع أنيقة، سيارات السرفيس مصطفة بانتظام، وحركة هادئة تذكّرك بالمدن العريقة التي تحافظ على إيقاعها ونظامها.
أتذكر أن عمّان في ثمانينيات القرن الماضي كانت مثالاً في النظافة والترتيب والأناقة، وقيل كثيراً على سبيل التباهي إنها أنظف مدينة عربية. لكن المشهد الآن تغيّرتماماً، ولا أعلم إن كان ذلك بسبب المقارنة القسرية مع المدن التي عشت فيها خلال غربتي، أم لأن عمّان تحوّلت فعلاً إلى مدينة تائهة تكتظ بالعشوائية والفوضى، أم أن الأمرين معاً.
ربما كانت عمّان أجمل حين كان عدد سكانها أقل، وتوسعها العمراني محدوداً، والمؤسسات الحكومية التي تديرها رشيقة. اليوم، وأنا أسير في شوارعها، ينتابني مزيج من الغضب والشفقة؛ أغضب للفوضى التي بلغت مستويات غير مسبوقة، وأشفق على أهلها الذين يستحقون مدينة أكثر تنظيماً من هذا الواقع المرهق، واقع ينطبق بالمناسبة على مدن كثيرة في المملكة.
شوارع بلا تخطيط للمسارات، وسائقون لا يحترمون حقوق الآخرين، لتتحوّل الطرقات إلى ساحة صراع يربحها الأكثر جرأة على كسر القوانين والأقل احتراماً للغير. فتحات تصريف شبكات المياه، والصرف الصحي، والكهرباء، والاتصالات، إمّا مرتفعة أو منخفضة عن مستوى الطريق، فتصبح خطراً دائماً على السائقين. والمطبات، في كثير من المناطق، غير مضاءة أو مميزة، فتؤدي وظيفة العقوبة أكثر من دورها في حماية الأرواح.
الحفر تنتشر في بعض الشوارع دون صيانة، وإن وُجدت أعمال ترميم فهي انتقائية لا تشمل جميع المناطق. شركات الكهرباء والاتصالات تحفر حيث تشاء، بلا تنسيق أو رقابة، لتترك الطرق مليئة بالتصدعات والانخفاضات، وأحياناً تُحفر النقطة نفسها أكثر من مرة، كما لو أن الجهات المعنية لا تعرف بعضها.
أما أسلاك الكهرباء والهاتف والإنترنت، فتتدلى في الفضاء العام بشكل يشوّه المشهد البصري للمدينة. وعمّان، في معظم شوارعها، بلا أرصفة تليق بالمشاة، وكأنها لا تعترف بحقهم في السير الآمن والتنقل مشياً على الأقدام، ودعك من حقوق ذوي الإعاقة أو الأمهات اللواتي يقدن عربات أطفالهن.
الازدحام الخانق صار جزءاً من هوية المدينة، في كل الأوقات والفصول، وثمة عجز واضح عن اجتراح حلول بوقت قريب. وغياب مواقف السيارات مشكلة مزمنة، تعكس قصوراً في التخطيط عن إيجاد حلول مبتكرة. المحال والمطاعم وحتى المستشفيات تستولي على المساحات أمامها، واضعة قواوير المياه أو البراميل أو الكراسي لحجز المواقف، فيما يدور السائقون في دوامة البحث عن مكان لركن سياراتهم.
حاويات النفايات تحتل مسارب كاملة من الطريق، بعد أن تُركت بلا أماكن مخصصة، لتزيد المشهد ازدحاماً فوق ازدحام، وفوضى فوق فوضى. والنتيجة شوارع مكتظة بالمركبات، والحفر، والمطبات، والتجاوزات، و”حرفنة” بعض السائقين في الالتفاف على القوانين، فضلاً عن بائعي القهوة الذين باتوا جزءاً يومياً ومستمراً من الطرقات ويزيدون من مشهد الفوضى، إلى جانب عربات التين والصبر والباعة المتجولين على الإشارات الضوئية.
أمام هذا المشهد البائس، يلحّ السؤال: لماذا يبرع مهندسونا في تنظيم المرور وهندسة الطرق حين يعملون في دول أخرى، عربية أو أجنبية، بينما يعجزون عن تقديم حلول حقيقية لمدنهم؟ كيف تتحول خبراتهم في الخارج إلى نجاح، بينما تظل مدننا أسيرة أخطاء بدائية وفوضى متراكمة؟