غريب في دمه: سيرة ظلّ لم يكتمل قراءة تحليلية في رواية “ظلال على شرفة المجهول” لإبراهيم ناصر

سمير اليوسف
يقدّم إبراهيم ناصر في روايته “ظلال على شرفة المجهول” نصًا مركّب البنية، يشتبك فيه البعد الوجودي مع البنية الاجتماعية، ويغوص في سؤال الهوية عبر شخصية “صابر”، العائد من غربته الطويلة ليبحث عن اسمه، لا في الوثائق، بل في عين أبيه، وعن جذره، لا في السجلات، بل في ذاكرة الأم، وعن ذاته، لا في المكان، بل في المدى الرحب للغياب والحنين. منذ العبارة الافتتاحية في الإهداء: “إلى الأحياء منهم… وإلى من رحلوا”, تتضح استراتيجية النص في المراهنة على الذاكرة باعتبارها أكثر صدقًا من السجلات، وعلى الغياب بوصفه شكلًا آخر من الحضور، وعلى الحنين باعتباره القوة الوحيدة القادرة على إعادة صياغة الزمن.
يختار الكاتب أن يضع القارئ منذ الصفحات الأولى أمام رمز “البيت الكبير”، ببابه الضخم الذي لا يُفتح إلا بعلم الفرحان. البيت هنا ليس بناءً ماديًا فحسب، بل منظومة اجتماعية وقَبَلية مغلقة، تمارس سلطتها خارج القانون المكتوب، متحكمةً في شرعية الأسماء، وحدود الانتماء، بل وفي مصائر الأفراد. إنه مرآة لمجتمع يحتكر مفاتيح الاعتراف، ويستثمر سلطة النسب لإقصاء المختلف. ويأتي صابر ليقف على شرفة هذا البيت، لا ليدخله، بل ليتأمل مجهوله الممتد، معلنًا أن العودة ليست إلى الجغرافيا، بل إلى الحفرة العميقة في الوعي، حيث السؤال عن الأصل يتحوّل إلى سؤال عن المعنى.
تستند الرواية في بناء مشاهدها على لغة شعرية عالية الكثافة، تُسخَّر فيها الصور المجازية لا للزخرفة، بل لتجسيد ما لا يقال مباشرة. حين يلتقي صابر بأبيه، لا يُسرد الحدث كوقائع جامدة، بل كصورة حسية: “كأنهما قطرتا ماء انبثقتا من بسمة السماء… وراحتا تدوران على محيط دائرة”. الدائرة هنا ليست مجرد شكل هندسي، بل رمز متكرر في النص للدلالة على الزمن المغلق، والمصير المعاد، والجرح الذي لا ينتهي. وفي مشهد آخر: “رائحة الغياب تنبض من الجدران، والستائر ترفرف كأنها ترفض إعلان الرحيل”، يتحول المكان إلى كائن حي، مشبع بالحنين والرفض، وكأن البيت نفسه يشارك في الصراع الرمزي.
يتصاعد التوتر السردي حين يموت الأب قبل أن يمنح ابنه كلمة الاعتراف. في لحظات النزاع الأخير، يخاطبه صابر: “لم آتِ لأحاسبك يا أبي… عدتُ لأعلن وجودي”. لكن الكلمة المنتظَرة لا تأتي، ويُترك الفراغ ليملأ المشهد. العم عبد الله يلخص المأساة: “كان شجاعًا فقط في البكاء أمام صورتك… ومن يُنكر نسبه خشية العار، فقد كفر بالعدل الإلهي”. هنا تتحوّل الرواية إلى محاكمة ضمنية لمجتمع يتعامل مع النسب كأداة سلطة، ومع الإنسان كملحق بالاسم لا ككائن قائم بذاته.
من الناحية البنيوية، تبني الرواية زمنها على حركة دائرية، حيث العودة إلى الماضي لا تقود إلى الحسم، بل إلى إعادة طرح الأسئلة بصيغ جديدة. عودة صابر لا تحقق اندماجًا، بل تكشف المزيد من الصمت والإنكار. ويصف نفسه: “لم أرَ صورتي في المرآة طوال غربتي”. وحين يراها أخيرًا، لا يرى رجلًا بقدر ما يرى جرحًا مفتوحًا. هذه الثنائية بين الصورة والجرح تضع القارئ أمام هوية لا تتشكل بالاعتراف الخارجي، بل بالمواجهة الداخلية.
تتأسس البنية الرمزية في الرواية على أربعة محاور كبرى تشتغل بوصفها أعمدة للمعنى، وهي: الظل، الدائرة، المرآة، الصحراء.
الظل هو المعادل الموضوعي لحالة صابر الوجودية؛ كائن حاضر غائب، موجود بلا اعتراف، وابن بلا جذور معلنة. وظيفته في النص مزدوجة: كشف هشاشة الاعتراف الاجتماعي، وإبراز قدرة الفرد على خلق هوية بديلة.
أما الدائرة فهي البنية الإيقاعية التي تحكم الزمن السردي، إذ تتكرر كصورة بصرية ومجازية للدوران في الفراغ، لزمن لا ينكسر، ولماضٍ يعيد نفسه بأشكال جديدة. كل عودة لصابر هي حركة داخل دائرة أكبر، لا خروج منها إلا بتغيير نقطة البدء.
المرآة تمثل المسافة بين الذات وصورتها؛ فهي تغيب حين يكون البطل في اغترابه الخارجي، وتنكسر حين يحاول المواجهة، لكنها تعكس في النهاية صورة رجل تشكل بالجرح. إنها رمز الإدراك الذاتي، لكنها أيضًا أداة قاسية للمساءلة.
أما الصحراء فتعمل كفضاء للتحرر وإعادة التكوين، فضاء مفتوح بلا جدران ولا أبواب، يتيح لصابر أن يغرس جذره بيديه بعيدًا عن قيد النسب. حضورها في الخاتمة ليس تبديلًا للمكان فقط، بل إعلان عن تحول في فلسفة الانتماء، من الوراثة إلى الفعل، ومن الانغلاق إلى الاتساع.
الموت في النص ليس خاتمة، بل عقدة تفتح على أسئلة أكبر: في مشهد الجنازة، “الناس يمشون في دوائر لا تكتمل، كأنما يبحثون عن لغة مناسبة للدموع”. الطقس الاجتماعي للموت هنا يكشف عن برودة المشاعر وزيف الطقوس، إذ تتحوّل الجنازة إلى ساحة مراقبة وتقييم أكثر منها لحظة وداع. هذا التوظيف للطقس الجنائزي يفضح كيف يمكن للعرف الاجتماعي أن يبتلع المشاعر الحقيقية، ويستبدلها بإيماءات شكلية.
أما على مستوى الشخصيات، فقد رسمها الكاتب بوظائف دقيقة في خدمة الفكرة المركزية:
• الأب (ممدّ) يمثل السلطة الخائفة، القادرة على الحسم مع الغرباء، العاجزة عن مواجهة ذاتها مع الأبناء.
• الأم ظل الحنان الممنوع، الحضور الدافئ المغيَّب قسرًا.
• العم عبد الله هو الحكمة المؤجلة، الذي يتكلم حين لا ينفع الكلام، لكنه يفتح باب التأويل الديني والأخلاقي.
• نُهى وابنة العم تمثلان الصفاء الذي لا يكتمل، علاقات محتملة لكنها تصطدم بحدود الانتماء.
• مريم، في الجزء الأخير، هي تجسيد للهشاشة الأنثوية في الغربة، إذ تقول: “لم أشعر بالراحة منذ قدومنا إلى زيزيا. الصحراء جافة كأنها تهبّ من داخلي”.
ينقلنا السرد في النهاية إلى الصحراء، حيث زيزيا تتحول إلى فضاء بديل، لا تحكمه شروط النسب، بل إيقاع الطبيعة. هناك يبدأ صابر حياة جديدة، كمن قُذف من مدن مغلقة إلى فضاء مفتوح تحمله الرياح من كثيب إلى آخر. في هذا الفضاء يولد مسعود، الابن الذي يمثل الجذر الجديد الذي قرر صابر أن يغرسه بنفسه. حتى مشهد الرضاعة يحمل دلالات عميقة: الطفل يرفض صدر أمه البيولوجية ويقبل الرضاعة من نساء أخريات، وكأنه يعلن أن الانتماء ليس معطى بيولوجيًا، بل بناء اجتماعي-عاطفي.
تغلق الرواية على جملة مكثفة الدلالة: “أنا لست منكم… لكنني لست غريبًا”. هذه الخاتمة تنقل البطل من موقع المفعول به إلى موقع الفاعل، من انتظار الاعتراف إلى منحه لنفسه، من سؤال الانتماء إلى ممارسة الفعل المؤسِّس له.
يمكن القول إن “ظلال على شرفة المجهول” تتجاوز موضوع مجهولي النسب لتصبح نصًا عن كل من أنكرهم المجتمع أو لفظتهم ذاكرتهم. هي حكاية ظلٍّ وقف طويلًا على تخوم الضوء، ثم قرر أن يدخل إلى النور وحده، دون انتظار إذن أو مصادقة. النص مشغول بحرفية عالية في تشكيل الزمن والمكان، وبناء الرموز (البيت، الدائرة، الظل، المرآة، الصحراء)، وتوظيف المجاز كأداة كشف، لا كإطار جمالي فقط. وهو بذلك يمنح القارئ تجربة قراءة بطيئة، تستدعي التأمل، وتفرض على الذاكرة أن تحتفظ بصوت هذا الظل الذي صنع دفأه بنفسه.