مناسف زمان عاطف أبو حجر

 

كان المنسف في الزمن الماضي ساحة بطولة: سبعة أو ثمانية رجال حول السدر الواحد، واللي ما بلحق يوكل لقمة يحلف إن الشبع بالنية مش بالأكل.
اليوم؟ أصبح السدر أضعف من شبكة الواي فاي… بالكاد يكفي ثلاثة، واثنان منهم مشغولان بتصوير “ستوري” قبل أن يبرد المنسف!
زمان كان الضيف يمد يده على السدر وهو مطمئن أن البركة تكفي الجميع… أما اليوم، فترى البعض يتسابق للجلوس أمام الموزة، والراس محجوز، واللسان صار لجماعة الـ VIP.
تحوّل المنسف من رمز للكرم إلى ساحة سباق ومراقبة: مين مد إيده أولًا؟ كم لقمة أكل؟ المنسف الذي كان يجمع القلوب صار عند بعض الناس مسرح استعراض، والنية الطيبة استبدلت بـ”لايك” و”قلب أحمر”.
زمان كانت “الطوَرات” دروسًا في التواضع: الطورة الأولى للضيوف الكبار، الثانية لأهل البيت والمعازيب، والثالثة للأطفال والخدم أو من لم يجد مكانًا من قبل، يأكلون مما تبقّى على السدر.
حتى “الطوره الثالثة” لم تكن تقلل من قدر أحد، فالكل كان يأكل بكرامة ويفرح باللمة ويشكر الله على النعمة.
المنسف لم يكن مجرد طعام، بل درسًا في التواضع والاحترام.
اليوم، بالكاد نشاهد ثلاثة أو أربعة أشخاص حول السدر. لم يعد المنسف يجمع، ولا اللمة تبهج…تحوّل من طقس اجتماعي إلى ميدان قتال ومجرد واجب أو استعراض على “الستوري”.
أذكر أن والدي — رحمه الله — حدثني عن أيام الطيبين، فقال:
“كنا في مناسبة غداء، وكنت أتناول الطعام على سدر مع شيخ عشيرة معروف، وكان برفقتي أخوك عاكف والذي كان طفلًا وقتها.
فسألني عاكف: يابَه، ليش هاظا الزلمة بدمل باللحم تحت الرز؟ فنظر إليه الشيخ وقال بهدوء: عشان في ناس بدها توكل ورانا… طورة ثانية.”
هكذا كان الكبار يفكرون بغيرهم وهم يأكلون، يشبعون بعد أن يطمئنوا أن هناك ما يكفي للجميع. كانت الطيبة والحياء والاحترام تُغرف من السدر.
للأسف، اليوم نشاهد التبذير في العزائم وصل لحدود مؤلمة. كميات كبيرة من الأكل تُرمى في الحاويات، بينما في بيوت قريبة منّا أناس ينامون جائعين. أصبح سدر المنسف مكانًا للفائض، لا للبركة.
صرنا نحاسب بعضنا: بدل ما نفرح أن الكل أكل وشبع… انشغلنا بالأقاويل.بتذكرة مرة انعزمت على غداء عرس، واكتشفت ساعتها أني مش حول منسف،لا،بل حول حلبة مصارعة، كان قاعد قدامي ثلاث عتاعيت، تقول داخل على حلبة مصارعة: الأول شبه المصارع جون سينا، والثاني شحط أقرع ملط، والثالث حجم XL ما بيفوت من الباب، واحد جايب معه قرن فلفل وضمة جرجير، والثاني ضمة بصل أخضر، والثالث كيس مخلل وفجل. اكتشفت أني وقعت مع شلة أشرار مسحوا المنسف مسح، وروحت تغديت بالدار.
أيها الناس… النعمة إن لم نشكر الله عليها ونقل: الحمد لله الذي يديمها من نعمة، فإنها تزول. والمناسف إن لم نحفظ كرامتها، ستصبح مجرد رز ولحم بلا طعم ولا نكهة ولامعنى.
فلنرجّع قيمة المنسف، ونعلم أولادنا أن “الطورة الثالثة” ليست عيبًا… العيب أن تأكل وتكب، وغيرك مش لاقي ياكل.