صَباحٌ هادئٌ يُبَشِّرُ بالسَّلامِ ويَفْرُشُ الطَّريقَ بالمحبَّة، يهدلُ فيه حَمامُ الصَّباحِ غَزَلًا وَعِتابًا. وتُشرِقُ شَمسٌ صافيةٌ يَتَلألأُ تحتها تُرابُ بلادي، تُلاعِبُ ريحُ أيلول السَّتائرَ، وتُصدِرُ الأواني والأشياءُ رنينًا عَذبًا يُهتِفُ: صَباحُ الخيرِ عَ الدِّيرةِ وأهلِها! صباحٌ بطَعمِ الهيلِ ورائحةِ الرَّيحانِ والزَّعتر.
أجواءٌ خَريفيَّة هادئة، تَخلعُ الأشجارُ عنها كِساءَها المُصفَرَّ، وَرقةً وَرقةً، وتَنتظرُ الآتي. أجواءٌ غَنيَّة بجمالِ الطَّبيعة، ترفٌ يُسدِلُ على القلبِ سلامًا لذيذًا، لا عواصفَ باردةٌ كعَواصِفِ الشَّمال البعيد، لا ثلجَ ولا زَمهَرير؛ كلُّ الأماني لدَينا.
عندما غَنَّت لين رونو، المغنِّية الفرنسيَّة سنة 1948، أغنيتَها Ma cabane au Canada ــ كوخي في كندا ــ كان العالَمُ قد خرجَ من الحرب العالميَّة الثانية. الأغنية قدَّمت صورةً رومانسيَّة وساحرة لكندا، أثَّرت في الخيال الجَمعي الفرنسي ـ بل والعالمي ـ في سنواتٍ ما بعد الحرب. صورةٌ كانت أقرب إلى بطاقةٍ بريديَّة شاعريَّة منها إلى واقعيَّة، إذ رَسَمت كندا كمكانٍ هادئ تغمرُه الغابات والسَّناجب والسكينة. فجَّرت الأغنية حالةً من الحنين إلى الطَّبيعة، وإلى “الكابينة البسيطة في الغابة”.
ولم تَكُن الأغنية حِكرًا على الفرنسيَّة، بل تُرجِمَت إلى لغات كثيرة حتى غَنَّتها السيدة فيروز بعنوان بيتي الصغير بكندا. عندها أخذ الخيال العربي يتساءل: ماذا تعني كوخًا صغيرًا في الغابة لرجلٍ أنهكَته سياط القهر والفقر والحرب؟ أهو الحُلم بالحرية والمغامرة والسفر؟
لكن ما بين حُلم الكوخ الكندي الحالِم وواقعِنا العربيِّ المليء بالتقلبات، يبقى السفر ـ في الخيال أو في الجغرافيا ـ بحثًا عن لحظةِ أمانٍ مفقودة. ربَّما لا نملك غابات كندا ولا أكواخها، لكننا نملك في داخلنا كوخًا صغيرًا نلجأ إليه حين تضيق بنا الأزمنة: بيتًا من الذكريات، أو كتابًا يفتح نافذةً على عوالم أخرى، أو أغنيةً تردِّدها الروح لتستعيد قوتها. ذلك هو السفر الذي لا يحتاج جوازًا ولا ثمنَ تذكرة، بل يحتاج قلبًا مُستعدًّا للدهشة.
السَّفرُ في ذاته ترفٌ عند بعضهم، وضرورةٌ عند آخرين، بل هو مؤشرٌ على الاستقرار في رأي علماء الاجتماع. إنَّه دعوةٌ للترحال والانفتاح على ثقافات الآخرين. غير أنَّ للتاريخ وجهًا آخر: فقد دفعت الحروب الكثيرين إلى ركوب موج البحر بحثًا عن جنَّةٍ موعودة، لكنَّ أسماك البحر كثيرًا ما كانت أرحمَ من قسوة الواقع.
ويبقى السؤال: ما الذي يُوقِد نار الرغبة في السفر؟ أهي النشوة التي تدفع الإنسان ليمضي فوق “جسر الشيطان”، متجاوزًا حدود القيم والعرف والدين؟ أم هي النافذة التي يفتحها السفر على العِلم والتعايش والسلام؟ إنَّها عربةٌ تَسيرُ بأحصنةٍ ثلاثة: المال، والصحَّة، والوقت. من امتلكَ زمامها استطاع أن يمضي بعيدًا في رحلته.
ولعلَّ ما رأيتُه في صديقٍ يدرس في هامبورغ يُجسِّد هذا المعنى؛ شابٌّ من جيلنا الواعي، يحمل رايةَ العلم والانفتاح والمسؤوليَّة، ويسير بخُطى راسخة وسط تحدِّيات عصرنا الكبرى: السياسة، والعنصرية، والجنس، أعمدة عالمنا المعاصر.
ذكّرني حديثي معه بشخصية علي في رواية عبد الحميد جودة السحّار جسر الشيطان؛ ذلك الشاب المصري الذي أمضى شهرًا مع آني أثناء بقائه في هامبورغ. هناك التقى بالأعراف الغربية وواجه ملامح من حياة الليل بين السُّكْر والإباحية وتجاربها، ذلك الصراع العميق الذي يعانيه العربي: هل يَخطو فوق الجسر نحو الضفّة الأخرى؟
وللسفر نوعٌ آخر يشترك فيه الغنيُّ والفقير: القراءةُ والفنُّ والموسيقى. من يملك وقتًا لها فهو يعيش ترفًا في عالَمٍ يطارده التوتر، وإيقاع الأحداث السريع، والضرورة التي تسلبنا السَّلام الداخلي والقدرة على التَّركيز.
ومع ذلك، فهناك عناصرُ ضروريَّة لا غِنى للإنسان عنها كي يعيش حياةً تَحترم إنسانيَّتَه. في مجتمعاتِنا العربيَّة المحافظة وذات الدخل المتوسِّط، قد يبدو السفر أو الصباحات الهادئة ترفًا، لكن هناك قيمًا أخرى تُعَدُّ نعمةً كبرى بل وأحيانًا أهمَّ: الأمان والاستقرار بعيدًا عن الأزمات، الحرية الشخصية التي تمنح مساحةً للتعبير، التعليم الجيد للأبناء باعتباره استثمارًا ثمينًا، والعلاقات الاجتماعية الصافية الخالية من النفاق، وأخيرًا الاستقرار المالي الذي يَضمن تلبية الحاجات الأساسية دون خوفٍ دائم من الغد. هذه القيم البسيطة والمكلفة في آن، هي ما يشكّل حُلم الإنسان اليومي ومعيار رفاهيته الحقيقي.
أمَّا الآن، فدعني أسافر في بطاقةٍ صباحيَّة أرسلها صديق: ممرٌّ ترابيٌّ تتناثر فيه أوراق الخريف، يخترق حقلَ الزهور، أفقٌ وجبال بعيدة تحت سماءٍ شاحبةٍ في انتظار الشتاء.
خاتمة
يبقى الترف والضرورة وجهين متلازمين للحياة؛ فالترف يفتح للإنسان نوافذ الحلم والدهشة، والضرورة تُبقيه مشدودًا إلى جذور الواقع. وبين الاثنين يتأرجح ميزان إنسانيّتنا، فلا يكتمل العيش بلا ترفٍ يُنعش الروح، ولا يُصان الوجود بلا ضرورة تحمي الكيان.
نحن نتغيّر، فالحياة تدفعنا إلى ذلك دفعًا؛ بين خيباتٍ صغيرة وزيف وجوهٍ لم نتوقع سقوط أقنعتها. وهكذا، مع مرور الزمن، نكبر ونفهم أكثر، فنرى الترف والضرورة لا كخيارين متعارضين، بل كرحلة نضجٍ تُعلّمنا كيف نوازن بين الحلم وحقيقة الواقع.
ويبقى السؤال: هل ما زال يرضى الإنسان المعاصر بكوخٍ بسيطٍ في ظلِّ شجرة ـ كما في الأساطير والأغاني ـ أم أن غروره لا يكتفي إلا بمزرعةٍ واسعةٍ وقطيع خيلٍ يركض في سعة المدى؟
سعيد ذياب سليم