التكتلات الاقتصادية كأداة لمواجهة أحادية القطبية الأميركية بقلم: المهندس سعيد بهاء المصري

 

من أحادية القطبية إلى البحث عن بدائل

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات، برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة تتحكم بمفاصل النظام الدولي.
هذا التفرد لم يقتصر على النفوذ العسكري والسياسي، بل امتد إلى الاقتصاد العالمي عبر سيطرة الدولار على حركة التجارة والتمويل،
وقيادة المؤسسات المالية الدولية كالـ IMF والبنك الدولي. لكن هذه الأحادية ولّدت في المقابل نزعات مقاومة لدى قوى ناشئة، شعرت أن مصالحها الاقتصادية والسيادية مهددة بسياسات الهيمنة الأميركية، فبدأت تبحث عن صيغ تعاون بديلة.

التكتلات الاقتصادية كآلية دفاعية وهجومية

التكتلات الاقتصادية ليست مجرد ترتيبات تجارية، بل هي أدوات استراتيجية:
– دفاعية: لحماية الدول الأعضاء من ضغوط العقوبات الأميركية وهيمنة الدولار.
– هجومية: لخلق أسواق جديدة، وتشكيل ثقل اقتصادي يمكن أن يوازن القرار العالمي.
التاريخ يبين أن نجاح هذه التكتلات يكون أوضح حين تتلاقى الجغرافيا (قرب الأعضاء) مع الإرادة السياسية والقدرة المؤسسية.

الاتحاد الأوروبي: النموذج الغربي لمعادلة النفوذ

رغم أنه نشأ تحت المظلة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الاتحاد الأوروبي تطور تدريجيًا إلى كتلة مستقلة نسبيًا:
– سوق موحدة وعملة مشتركة (اليورو).
– نفوذ تفاوضي عالمي أمام الولايات المتحدة والصين.
لكن تبعيته الأمنية لحلف الناتو بقيت تقيّد استقلاليته، ما جعله يتأرجح بين الشريك المنافس والحليف الاستراتيجي لواشنطن.

بريكس: جغرافيا متباعدة لكن هدف مشترك

يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وتوسع مؤخرًا ليشمل إيران والإمارات ومصر وإثيوبيا وإندونيسيا.
– رغم التباعد الجغرافي والاختلافات السياسية، فإن القاسم المشترك هو رفض الهيمنة الأميركية.
– يعمل التكتل على تعزيز التسويات بالعملات المحلية وتوسيع دور «بنك التنمية الجديد»، ما يطرح تدريجيًا بدائل عن الدولار.
– قوته تكمن في الحجم السكاني والاقتصادي الهائل، لكن تحديه الأكبر هو غياب الانسجام السياسي بين أعضائه.

منظمة شنغهاي للتعاون: البعد الأمنيالاقتصادي

SCO بدأت كمنصة أمنية إقليمية، ثم تحولت إلى إطار اقتصادي–سياسي يجمع الصين وروسيا والهند وباكستان ودول آسيا الوسطى، إضافة إلى إيران وبيلاروس.
– تمثل حوالي 43% من سكان العالم وربع الناتج الاقتصادي.
– إستراتيجيتها حتى 2035 تركز على التعددية القطبية، ومواجهة التهديدات المشتركة، وبناء بدائل مالية عبر التسويات بالرنمينبي والروبل.
– هنا تلعب الجغرافيا المتجاورة دورًا في ربط الطاقة والبنية التحتية، ما يعطيها قابلية أعلى للتماسك مقارنة ببريكس.

آسيان: حالة تحت التشكل

تُعد رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) نموذجًا مختلفًا؛ فهي لم تنشأ لمعاداة الولايات المتحدة مباشرة، بل لتقوية روابط الدول العشر الأعضاء اقتصاديًا وأمنيًا:
– قوة سكانية وتجارية: تضم أكثر من 600 مليون نسمة، وتشكل أحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم.
– السوق المشتركة: تبنّت خطوات لتوحيد القوانين التجارية وتسهيل انتقال السلع والخدمات والاستثمار.
– توازن القوى: رغم قربها من النفوذ الأميركي، فإن آسيان تحاول لعب دور «الموازن» بين واشنطن وبكين، مستفيدة من موقعها الجغرافي الإستراتيجي على طرق التجارة العالمية.
– حالة تحت التشكل: لم تصل بعد إلى مستوى الاتحاد الأوروبي أو بريكس في الطموح السياسي، لكنها تبرز ككتلة مرنة يمكن أن تنضم تدريجيًا إلى المشهد المتعدد الأقطاب، خاصة مع سعيها للتقارب مع الصين في قضايا التجارة والطاقة.

أين الأردن من كل هذه التظاهرات الاقتصادية السياسية؟

يقف الأردن اليوم أمام مشهد عالمي يتشكل نحو التعددية القطبية، بينما يواجه داخليًا تحديات اقتصادية مزمنة تتعلق بالمديونية المرتفعة، ضيق الموارد الطبيعية، وضغوط البطالة وارتفاع كلف المعيشة. علاقاته الاقتصادية ما تزال مرتبطة بدرجة كبيرة بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من خلال المساعدات المالية، والاتفاقيات التجارية (اتفاقية التجارة الحرة مع أميركا)، ودعم برامج التنمية والإصلاح. لكن في المقابل، للأردن شبكة واسعة من العلاقات الثنائية مع معظم دول العالم، بما فيها الصين وروسيا ودول الخليج، وإن بقيت هذه العلاقات أقرب إلى صفقات ومشاريع متفرقة أكثر من كونها شراكات إستراتيجية منظمة.

هنا يطرح السؤال الجوهري: هل مصلحة الأردن تكمن في الانضمام إلى إحدى الكتل الكبرى القائمة مثل بريكس أو منظمة شنغهاي للتعاون؟ أم أن الأردن بحكم موقعه الجغرافي وعمقه التاريخي يمكن أن يقود حملة إقليمية لإنشاء تكتل اقتصادي جديد يضم دول بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية، يكون هدفه تعزيز الأمن الغذائي والمائي، وتكامل الطاقة، وربط الأسواق المحلية بآليات استثمار وتمويل مستقلة؟

التحدي أن أي توجه أردني نحو كتلة بديلة قد يضعه في مواجهة حساسة مع داعميه الغربيين، خاصة الولايات المتحدة التي تشكل ركيزة أساسية للاستقرار المالي والسياسي في البلاد. أما الفرصة فهي في بناء صيغة إقليمية جديدة تسمح للأردن بالتحرك من موقع الفاعل لا المتلقي، ويصبح بذلك نقطة وصل بين العالم العربي والكتل الدولية الكبرى. بعبارة أخرى، الأردن أمام مفترق طرق: إما الاكتفاء بدور محدود داخل النظام الأحادي، أو المساهمة في صياغة توازن إقليمي جديد يفتح الباب أمام تنمية أكثر استقلالية واستدامة.

بين التحديات والفرص

– التحديات: التباينات السياسية، ضعف المؤسسات المشتركة، التوترات الجيوسياسية (خاصة بين الصين والهند).
– الفرص: إعادة تشكيل موازين القوى العالمية، بناء نظام اقتصادي أكثر توازنًا، واستقطاب دول الجنوب العالمي الباحثة عن بدائل للغرب.

ظاهرة التكتلات الاقتصادية ليست مجرد خيارات اقتصادية، بل هي رد فعل جيوسياسي مباشر على أحادية القطبية الأميركية. ومع كل توسع لبريكس أو تعميق لشنغهاي أو تطور في الاتحاد الأوروبي أو صعود تدريجي لآسيان، تتآكل فكرة «المركز الواحد» الذي يقرر مصير الاقتصاد العالمي. المستقبل يُظهر بوضوح أننا أمام تعددية قطبية قيد التشكل، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية مع إعادة رسم خرائط النفوذ السياسي.