تضج وسائل الإعلام العالمية بالأخبار الواردة من الاقتصادين الأكبر في العالم، أو بالأحرى من الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة النفوذ الأوسع والصين التي باتت قاب قوسين من إعلان نفسها كقطب متكامل الأركان معيدة للأذهان قطبية الأمريكان – السوفييت، ولكن النقطة الأكثر حدة هي الطريقة التي تتصرف عليها أمريكا ممثلة برئيسها الجدلي قياسا إلى الاتزان الصيني منقطع النظير، في هذا المقال سأعمل على تفكيك الصورة وبيان مواضع الاختلاف وأسباب التناقض.
الفروقات الأيدولوجية، توطئة..
تُعد كلا من الولايات المتحدة والصين مثالا على الوضوح الأيدولوجي، فالولايات المتحدة تشكل الأنموذج الأبرز لليبرالية، سواء باقتصاد السوق المفتوح وحرية حركة رأس المال، أما عن الصين فتطبق نظام حكم شمولي يتسم بالخلط بين الاشتراكية على صعيد وسائل الإنتاج الرئيسية الأكثر حيوية مثل المياه والطاقة والنقل وغيرها، فيما يترك السوق الصناعي بهامش من التنافس مع وجود رقابة للحد من التوغل أو التضخم في رؤوس الأموال، كما تسمح البلاد بالاستثمارات الخارجية إلا في بعض القطاعات السيادية المحظورة مثل الاتصالات والإعلام والتمويل، كما يرتكز الاقتصاد الأمريكي على الابتكار والتكنولوجيا والتمويل والخدمات، أما الصيني فيعتمد على التصنيع والصادرات المدعومة باستثمارات حكومية ضخمة.
أما من حيث المنظومة الفكرية الحاكمة، فتتسم الصين بتبنيها للأيدولوجية الماركسية مع تعديلات تناسب طبيعة البلاد، حيث يحكم الحزب الشيوعي بشكل منفرد مع تطبيق آليات صارمة للحوكمة -سأتطرق لها لاحقا- أما عن أمريكا فالحكم فيها رئاسي يحتكم لصناديق الاقتراع التي يتنافس عليها عادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
شكل الحكم.. أرضية الاختلاف!
يتميز الحكم في الصين بثبات منقطع النظير، حيث يحكم الحزب الشيوعي الصيني البلاد متفردا، ويعمل على ديمومة حكمه بالمزاوجة بين الرقابة الشديدة وتشذيب الحركة السياسية مع تطبيق حوكمة داخلية شديدة جدا، حيث يبلغ عدد أعضاء الحزب أكثر من مائة مليون عضوا، والترقي داخل الحزب يحتاج إلى الخضوع لمراحل من التدريب وإثبات الجدارة المحكومة بسجلات الأداء، أي أن الرئيس الصيني شي جين بينغ تدرج قبل الرئاسة منذ السبعينات، حيث وثق له كونه نائب للعمدة في محافظة فوجيان حتى تقلد منصب نائب الرئيس في 2008 ثم اعتلى سدة الحكم في 2013، أي أنه قضى قرابة الأربعين عاما في التسلسل الحزبي والعام قبل الرئاسة!
وعلى النقيض فلو نظرنا إلى تاريخ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فسنجده تطور بشكل مستقل عن العمل السياسي، حيث عرف كتاجر للعقارات وناشط إعلامي جدلي، بل إن الغريب في سيرة الرجل تكمن في تقلبه بين الحزبين الرئيسات ولعدة مرات، حيث قدم نفسه في المرة الأولى عام 1987 كجمهوري، ثم انتسب للحزب الديمقراطي من 2001 حتى 2009، ومن ثم سجل جمهوريا حتى 2011 في سلسلة تبعها الاستقالة والانضمام، حتى إطلاقه لحملته في 2015 كمرشح عن الحزب الجمهوري مدعوما بنفوذه المالي وشبكة علاقاته، ليعتلي سدة الحكم للمرة الأولى في 2017 حتى 2021، ثم يعاد انتخابه للدورة الحالية 2025، بعد أربع سنوات قضاها بين المحاكم وإثارة الرأي العام بخصوص قضايا متعلقة بولايته الأولى.
عند النظر في التباين الواسع بين الرئيسين، سيتضح لنا وجه الاختلاف، بل إن إجابة مشكلة المقال تكمن في هذا، حيث تعاني المنظومة الليبرالية الأمريكية من تراجع في مخرجات صناديقها ديمقراطيا، وهذا بسبب احتكامها للمزاج العام الذي يتحرك بين النخبوية في محطات من تاريخ البلاد إلى حالات أخرى يكون فيها مترديا بسبب تغير أنماط الإنتاج والحالة الثقافية، أما عن الصين فقد نجحت في تجاوز هذا، وعلة الموضوع هو استقرار الحكم الذي يرسم الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد، ويضمن ديمومة العمل المؤسسي، فلا نرى صدامات مستمرة بين شخص الرئيس ومؤسسات بلده، وهذا بسبب الوحدة الموضوعية، حيث يعبر الرئيس الصيني عن حزبه الحاكم بشكل تام، فيما نجد عكس هذا تماما من صدامات مستمرة بين الرؤساء الأمريكيين والرجال البيروقراطيين الأدنى منهم بسبب تغير منهجية الحكم تماما بين الحزبين هناك.
إن الفروقات بين الرئاسة الأمريكية والصينية جلية واضحة، فلا نجد لقطات من الخرف للرئيس الصيني، كما لا نجد له قرارات مفاجئة تصدم دوائر صنع القرار هناك، فالعملية محكومة بأعلى درجات الاتزان والانضباط.
مجموعات الضغط.. مزيد من التعقيد!
إن الأمر الأمريكي لا يقتصر على المذكورات أعلاه، بل ما هن إلا أرضية خصبة للسحب والدفع، فالولايات المتحدة بسبب مناخها السياسي مليئة بجماعات الضغط (اللوبيات) والتي تحتكم لمرجعياتها، فمنها الاقتصادي والأيدولوجي والسياسي، بل إن الولايات المتحدة تسمح بوجود قوى ضغط لقوى سياسية خارجية، تؤثر هذه كلها على الإعلام والرأي العام والاقتصاد، في تفاعل مستمر يؤرجح الحكم يمينا ويسارا تجاه مختلف القضايا، فتجد أمريكا مناصرة للقضايا البيئية تارة، وملغية التزاماتها تجاهها، بل الأغرب هو تغير المواقف السياسية تماما، ولعل المثال الأوكراني خير دليل على هذا التأرجح بين فترة بايدن وترامب، فقد تحول وجه أمريكا المبتسم ويدها البيضاء إلى عصا تهدد وتتوعد وتطالب بما قدمت من مساعدات، وهذا التأرجح يضع الحلفاء -والأعداء بطبيعة الحال- في أزمة مستمرة للحفاظ على مستويات العلاقة، عداك عن التأرجحات بالنسبة لقضايا المهاجرين والحريات الشخصية وغيرها.
أما عن الصين فنجدها تحظر أي وجود لجماعات الضغط، ولا يحتكم الحزب الأوحد هناك إلا لتراتبه الداخلي ورصده المستمر للوضع الدولي والمحلي للخروج بأفضل المخرجات المتسقة مع نموذج الحكم وأيدولوجيته، وهذه النقطة تعطي حلفاء الصين أساسات ثابتة في التعامل، وهذا لإدراكهم أن لا قرارات مفاجئة كبرى قد تتخذ، فالثبات الصيني مستمر.
منطلقات الأدوار الدولية:
يمثل اختلاف منطلقات اللعب في الساحة الدولية نقطة جوهرية بين البلدين، فلا يخفى على أحد انعكاس السياسة الأمريكية على العالم ككل، فالولايات المتحدة لها عشرات القواعد العسكرية حول العالم غير مترددة في توظيفها عند الحاجة، كما أنها تتحلى بسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي العالمية ووجود أصول أغلب الشركات العابرة للقارات على أرضها، عداك عن الضغوطات السياسية المستمرة والعلنية المباشرة في قضايا الآخرين.
أما عن الصين فترتكز في أدوارها على الدبلوماسية الناعمة والاقتصاد التنموي، ولنا في مبادرة الحزام والطريق مثال، كما لا تملك الصين خارج حدود أراضيها -بحكم الدستور- إلا قاعدة عسكرية وحدة في جيبوتي لأغراض حماية السفن في باب المندب، وهذا ما يعطيها المزيد من الموثوقية.
الحريات.. نقطة ظاهرية لصالح أمريكا.
بعد كل ما ذكرناه أعلاه يجدر بنا الإشارة إلى نقطة أمريكا الرئيسة، وهي تحلي البلاد بحالة موسعة من الحريات الاقتصادية والعامة والشخصية، وهذا ما جعلها تستهوي رواد الأعمال وكبار الاقتصاديين والباحثين عن فرص حياة أفضل، ومع ذلك نجد أن سياسات الرئيس ترامب الأخيرة تصب في الاتجاه المعاكس من حيث تهجير المخالفين ووضع قيود على بعض أشكال التحرر هناك، أما على الصعيد العام فنستطيع عد قضية إجهاض التحركات الطلابية الجامعية وفصل مدرسين بسبب الوقوف في صف القضية الفلسطينية – وصمة عار على جبين الحرية الأمريكية.
الصين في الجانب الأخر تحظر الأنشطة السياسية المعارضة بشكل تام، كما تفرض قيودا مطبقة وسيطرة تامة على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، علاوة على قيود على الحركات الاجتماعية والثقافية المخالفة لمنهج الدولة، وكثيرا ما تتذيل قوائم التصنيفات من حيث الحرية.
خلاصة الخلاصة!
حاولت في سطوري أعلاه تبسيط الفروقات الجوهرية بين نظامي الحكم الصيني والأمريكي، وللإجمال فيمكنني القول أن نظام الحكم في الصين يعد الأكثر استقرارا وثباتا وحفاظا على المنظور الاستراتيجي، فيما تتفاوت المواقف الأمريكية نظرا لعدة ضغوطات وعوامل ذكرنا منها شخص الرئيس وحزبه وقوى الضغط وتباينات السوق والتدخل في شؤون الدول الأخرى ومستويات الحرية، ويبقى السؤال الأهم، أي النموذجين أكثر موثوقية: النظام الصيني بحسناته المذكورة مع شبه انعدام الحريات السياسية هناك، أم الأمريكي بما ذكرنا له مع سيئات ولكن مع مساحات الحرية الواسعة؟!