جائحة كورونا أكدت للقَاصي والدَّاني، للمُتعلمين والأمّيين، للصِغار والكِبار، للرِجال والنّسَاء، ولكلِ مَن ينطقُ بحرفٍ ولغةٍ، ولجميع مَن يَشعرون عَن قُربٍ ويَستشعرون عَن بُعدٍ، وللبَاكي والضَاحك، وللمُعَلِّم واِلمُتلقّي، أن الرأسمالية فكرًا وممارسةُ إنما هي مجتمع القهر الطبقي والاجتماعي، وآلية هَمجية وشَيطانية لتصفية البشر جسديًا وعقليًا ونفسيًا، وللتخلّص بالفيروسات المُستَحدَثة مِمَّنْ لا يَستطيعون نيل قوت يُومهم بقِواهم الفردية المُتواضِعة، بخاصةٍ خلال تلك الجوائح التي تضرب بين حين وآخر البشرية، وآخِرُها هجوم “كورونا” المتواصل والقاتل للبشر والحَجر الذي هو الحَافظُ للحَضَارةِ التي يَستهدفها هذا السفاح المَخْفي، الذي يَرمِي إلى تحويل العَالم بكُليتهِ عن البُنى الإنسانية العَليّة في الآدميين، إلى سِيادة البُني العُدوانية في كِيانهم، ودفعها في مَسَربٍ مُحدَّد لتجد ضالّتها في “أبناء قَعر المجتمعات”، بغية تجفيف هؤلاء فيزيائيًا مرة وإلى الأبد، في عَملانيات تَتَّسم بعدمِ الشفقة حينًا، وبالتجرّد من كل رسائل السَماء ومرسليها البرَرة وسوية السلوك والتفكير العَقلاني في آحايين أخرى.
في النظام الرأسمالي الإجرامي يجري اضْطهاد الجماهير والشعوب على قدمٍ وساقٍ، وجرى في “مناسباتٍ!” لا إحصاء لها تصفية عشرات ملايين الناس مِمَّن رفضوا الرأسمالية فكرًا وممارسةً، وتم تدمير الكثير من الدول الاشتراكية، لا لشيء إنما لأنها ترفع شعار مساواة البشر فعليًا وليس كلاميًا فقط، ولكونها كانت تُصر على حَقّها المشروع في نيل مُنتجات الحضارة البشرية، والمساواة بين الناس في كل صغيرة وكبيرة، ضمن المجتمع البشري الواحد، والتَّشاركي، والمُتآخي، والمُتساوي المَكانة وفي الأشياء.
بدأت الاشتراكية الطوباوية في التألّقِ كونيًا حين أخذت بالرد الواقعي والحازم على هجوم الاستغلاليين، وأصحاب المُجتمعات الفاسدة، والرأسماليين الجشعين القاتلين لكل ما يتحرك على الأرض دون إذنٍ منهم. ولهذا، ظهرت أولًا أنوار الإشتراكية الطوباوية التي حَملت على ظهرها هموم الإنسان الأول، الذي كان اجتماعيًا بامتياز في طائفتهِ وعشيرتهِ وقبيلتهِ ومجموعتهِ وعائلتهِ الصغيرةِ. كان إنسان الطوباوية يفيضُ سعادةً بالتشاركية الطبيعية التي تشتق شخصيتها من الأوضاع الخَلْقِيّة والأُصُول والمَورُوثاتِ المنتشرةِ من حولهِ.
الطوباويون ردّوا على طبقةِ الرأسماليين الجُدد وتَقَدَّمَوا بِاقْتِراحٍ نظام مِثالي جديد للناس، وقد نجحوا في حقبةٍ من الزمن بجذبِ أسوياء كثيرين لمُعسكرِهم، وإلى أفكارهم ومَصْفوفاتهم، لاسيّمَا وأنهم كانوا قد تخلّصوا جزئيًا من المجتمع الاستغلالي الذي رفض الفناء، إذ صنعوا مجتمعهم الخاص بأنفسهم، وكان ذلك بمثابةِ ثورةٍ حقيقيةٍ على كل قديمٍ ومتهالكٍ لا يدخل في خانة المصالح الإنسانية بواقعها الجَمعي.
أخطأ البعض باعتقادهم أن الاشتراكية الطوباوية هي مُجرد أمنية وصورة جميلة لا حِراك فيها ولا مُحرّكات تدفع بها إلى الأمام، فلم يُدركوا بأنها ثورة سماوية حقيقية على كل النظام الاستغلالي القديم، الذي نرَاهُ اليوم يعمل بأبشع الصور للتخلص من غالبية المجتمعات البشرية بالحروب الفيروسية تَارَةً، وبالنزاعات العسكرية المباشرة تَارَةً أُخْرَى.
تواجه الرأسمالية اليوم مشكلة حقيقية تَتَبّدَى بانتماء المزيدِ من البشر للاشتراكية الطوباوية، وهذه قد تنقلهم إلى خانة الاشتراكيات الأُخرى، ومنها تلك التي تدعو إلى مباشرة النضال الفَاعل والعَملي على الأرض لقَصْم ظهر الرأسمالية العدوانية والاستغلالية والمتوحشة وآلياتها وأسيادها الذين يعملون اليوم لضربِ الركائز التاريخية لهذا العَالم، ولتسييد جماعاتٍ على أخرى خدمةً للصوص المَال الطفيلي ورأس المَال المَالي الذي يتطلع للسيطرة التامة، واحتكار إدارة البشرية صوب مصالحه الضيقة فقط، التي تعني عمليًا إعادة تشكيل هذا العَالم على نمط ما قبل الاشتراكية العِلمية والمجموعة الإشتراكية العَالمية، التي وللأسف الشديد، فشلت تجربتها لأسباب منها ما تعرضت إليه من نَخرٍ متواصلٍ بالعُمَلاء والمُتسلِلِين والمُندسّين والنَاقِمِين على “أفكار المُساواة بين البشر”، التي يُخيّل لقصيري النظر أنها قُبرت نهائيًا، لكن ها هي تعود تدريجيًا ردًّا على صُنَّاع الحُروب والمَجازر بحق الخليقة الألهية، ولتعرية أرباب الفيروسات الساعين إلى تقليص عدِد النّاسِ، سعيًا منهم لإحتكار قارات إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، التي يعتبرونها مجرد خَامَات تدر عليهم المليارات من الدولارات، والذهب الرنّان، والألماس وغيره الكثير، دون أخذهم بعين الإعتبار هِبَة الحياة الإلهيَّة المُقدّسة وأسباب وجودنا ووجودها وأهدافها النبيلة.