هذه عمان كلما حاولت أن أهرب منها أجدها تنبعث في داخلي. تثير في الشجن والذكريات والحنين لأشخاص أحمل أطيافهم أينما حللت واغتربت، وأماكن تسكنني منذ ولادتي في حي المهاجرين في قاع المدينة، وطفولتي وصباي في حي المصاروة، الحي الشعبي المتكئ على سفح جبل عمان. وحتى شعوري بالاغتراب في أحياء عمان الغربية لبرودة الحياة فيها، والتي لم تشدني اليها رغم اقامتي فيها. أحن وأشتاق فينبعث من داخلي النص.
تسرح بخيالك بعيدا تتجول في أزقة وحواري وأماكن أنت تعرفها وتدخل في حالة كانت تستهويك كثيرا حالة استحضار الشخوص تستلقي في مكانك شاردا مغمضا عينيك تستحضر أشخاصا تتحدث إليهم، تناجيهم محاولا إطفاء شيء من نار الشوق الملتهبة في داخلك لرؤياهم ونار الشوق هذه متى أضرمت في داخل المرء كيف له أن يطفأها؟
تغمض عينيك فتسمع صوت إنغلاقهما وتترائى لك الظلمة تمتد أمام عينيك لا حدود لها رويدا رويدا تلوح الوجوه أمام ناظريك قادمة من بعيد فتبدوا كنقاط بيضاء تنطبع على سواد العتمة من حواليك ثم تبدأ بالاقتراب ببطء فتتسع أمام ناظريك النقاط لتشكل وجوها تعرفها ترتسم الإبتسامة على شفتيك ويبدأ قلبك بالخفقان أكثر دفئ غريب بدأ يسري في أنحاء جسدك فتشعر بالسخونة تتسلل بين لحمك وعظامك تتسارع أنفاسك مع التسارع في خفقان قلبك يعلو صدرك ويهبط بسرعة رغبة منك في سرعة وصول الهواء إلى رئتيك الباردتين تزداد السخونة تحت لحمك فيطرق في أذنيك صوت احتراق اللحم وذوبان دهنه كأنه على جمر ملتهب لحظات وتفوح في أنفك رائحة الشياط تعتصر جفنيك وتشد عليهما أكثر كي تنطبع الوجوه على اللوحة المعتمة أمام عينيك وتظهر ملامحها أكثر وضوحا ترفع يديك على امتدادهما محاولا الوصول بأطراف أصابعك إلى هذه الوجوه كي تتحسس دفأها فتلامس اللاشي تغص في حلقك الكلمات وتحس باحتراق لحمك.
ما أبشع رائحة احتراق اللحم البشري وصوت الطرطقة لعظام يصليها لهيب الشوق.
تسارع في البحث عن نسمة هواء نقية لرئتيك فلا تجد تعتصر جفنيك أكثر محاولا استخراج الدموع من مقلتيك فلا تجد هي دمعة واحدة فقط تنزف من إحدى عينيك وتسقط ساخنة على وجنتك فيكبر فيك التساؤل بإستغراب: لماذا كلّما كان يداهمك البكاء كانت تسيل منك دمعة واحدة ومن عين واحدة فقط؟
لا تعرف انت لكن في مكان ما بعيدا من هنا وفي هذه اللحظة بالذات هناك امرأة تجلس وحيدة فاردة ألبوما من الذكريات تطالعه بصمت وشرود بانتظار عودتك تقلب الألبوم بيد وباليد الأخرى تسند رأسها المثقلة بالأفكار والوحشة وبغفلة منها تسقط دمعة من عينك الأخرى تحرق وجنتها فتفطن من شرودها متسائلة هي أيضا تحضر وآثار دمعة على وجنتها تمسح الدمعة بكفك فتورد إبتسامة على شفتيها ويعبق المكان برائحة الياسمين وكما كانت هناك معك تأتيك هنا كي تكون معك تفرد لك جفنيها مهدا فتفترشهما وتستكين.
تغوص أنت في بحر أحلامك وتداعياتك بعيدا حتى تصبح جزءا منها ففي لحظة ما لا يميز المرء بين الحلم والواقع فالأحلام والتداعيات وإن كانت مجرد نشاط ذهني عابر فإن أجواءها ومشاهدها ووقعها على النفس تبقى ملازمة له ومحفورة في ذاكرته حتى بعد صحوه فالذكريات هي الجدار الأخير الذي يستند إليه المرء في وحدته ولحظات ضعفه هي حصيلة تجارب يراكمها وهي الدليل الذي يسترشد به في خطواته كي لا يتعثّر ويقع.