قبل الإسلام وبعده، تكررت دورياً جائحات وباء الطاعون الدبلي (الدملي أو الغددي) في أرض الروم وأرض الفرس وفي كل مكان في عالم ذلك بعد وقوع جائحة وباء الطاعون الأولى سنة 541 م في مصر التابعة للروم، أي قبل ولادة النبي –صلى الله عليه وسلم- بثلاثة عقود تقريباً. بعض النظريات تقول أن الوباء قدم إلى مصر من الهند والصين، وبعض النظريات تقول أن الوباء قدم إلى مصر من آسيا الوسطى، وبعض النظريات تقول أن الوباء قدم إلى مصر من الحبشة.
بكل الأحوال، وصل الطاعون إلى مصر، وبالتحديد إلى مدينة الفرما (بور سعيد اليوم)، ومنها انتشر الوباء في حوض البحر الأبيض المتوسط، وعمّ في كل أنحاء المعمورة، وأينما وصل الطاعون استوطن في المكان، لهذا كان الوباء يتكرر دورياً كلما سمحت له الظروف باستعادة نشاطه، وكان لكل جائحة وباء طاعون منطق صيرورتها وتطورها الخاص بها بناء على ما سبقها، ولها تاريخ بداية ونهاية محددين، وتتميّز فاشياتها بحركة تطور مستمرة، وبالترحال الدائم من مكان إلى آخر حتى انكشافها، أي توقفها عن الانتشار.
جائحات وباء الطاعون التي وقعت في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم- (جائحة 600- 601 م، وجائحة 5-7 هـ/ 626- 628 م) توضح لنا الأسباب التي دفعت النبي –صلى الله عليه وسلم- للاهتمام بمرض الطاعون أكثر من الأمراض الوبائية الأخرى، فقد أولاه عناية خاصة بعد الهجرة النبوية للمدينة، وذلك بسبب وصول وباء الطاعون إلى أرياف المدينة، ومعرفته بخطورة هذا الوباء على حياة الناس وقدرته على تمزيق المجتمعات وتدميرها. هذا الاهتمام النبوي بالطاعون نجده في الأحاديث النبوية الكثيرة التي تناولت موضوعه بشكل خاص دوناً عن الأمراض الوبائية الأخرى، ونجد في كتب تفسير القرآن الكريم إشارات رمزية لهذا المرض الفتاك عند المفسرين لبعض الآيات الكريمة.
بانتهاء حروب الردة، بدأت العمليات العسكرية لفتح بلاد الشام والعراق، وخلال مسار حروب الفتح ومخاطرها في عهد عمر بن الخطاب، فوجىء المسلمون وهم في ذروة تقدمهم السياسي والعسكري بانفجار جائحة وباء الطاعون بالشام في شتاء 16- 17 هـ/ 637- 638 م وانتهت هذه الجائحة في الشام أوائل سنة 18 هـ/ 639 م. المتقدمون والمتأخرون اهتموا بفاشيات هذه الجائحة التي وقعت سنة 18 هـ/ 639 م، والباحثون العرب المعاصرون في هذه الجائحة لم يتجاوزا حدود التصورات الذهنية التقليدية التي سادت في العصر العباسي الأول، فاهتموا بالفاشيات الوبائية التي وقعت سنة 18 هـ/ 639 م ومات فيها أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وغيرهما من المسلمين. لقد قاموا ببتر بعض الفاشيات عن سلسلة فاشيات عام طاعون عمواس، والأسوأ أنهم قاموا ببتر “عام طاعون عمواس بالشام” عن جائحة وباء الطاعون الذي ضرب الشام ومصر والجزيرة الفراتية والعراق بين 16- 21 هـ/ 637- 642 م.
إن عمليات البتر التي جرت على جائحة وباء الطاعون في عهد عمر بن الخطاب أدت إلى العجز عن الوصول إلى إجابات شافية على الأسئلة النقدية الكثيرة التي تطرح نفسها في هذا الموضوع، والجميع تغافل عن طرح السؤال الرئيسي المركب: لماذا انفجرت جائحة وباء الطاعون في الشام، وأين انفجرت أولى فاشيات الوباء العام في الشام، وكيف تحركت وتقدمت وارتحلت من الشام إلى مصر والعراق وبلاد فارس؟ ويوجد الكثير من الأسئلة حول هذه الجائحة بلا أجوبة، ولا زالت قائمة وتحتاج إلى إجابات، إجابات ليست نهائية، إذ لا نسعى في هذه المقالات إلى الوصول إلى أجوبة نهائية في موضوع جائحة وباء الطاعون في عهد عمر بن الخطاب، فليس هناك في رأينا أجوبة نهائية حول هذه الموضوع. إن ما نسعى إليه هو نقطة بداية ذات إحداثيات معرفية جديدة، نقطة انطلاق من تحت ظلال المعرفة التاريخية التقليدية لتقصي حقيقة أسباب انفجار جائحة الطاعون في عهد عمر بن الخطاب بالشام، والكشف عن الأسباب البعيدة في الزمان والمكان قبل الإسلام، والأسباب القريبة زمن النبي –صلى الله عليه وسلم-، والأسباب زمن عمر بن الخطاب، وأسباب انتقال فاشيات طاعون هذه الجائحة من الشام إلى مصر والعراق وبلاد فارس.
مثل هذه المحاولة تطرح سؤالاً مركزياً، وهو: هل تصوراتنا صحيحة عن عام طاعون عمواس؟ لماذا غابت أخبار جائحة وباء الطاعون في عهد عمر بن الخطاب التي ضربت مصر والعراق وبلاد فارس عن المشهد التاريخي في كتب التراث؟ وهل حقاً بدا الطاعون في (قرية عمواس) الواقعة في فلسطين بالشام، وبسبب ذلك حمل الطاعون اسم طاعون عمواس؟ جاء في أحد المصادر الجغرافية الإسلامية في القرن الخامس الهجري أن وباء الطاعون في بدا في قرية عمواس، ومن هذا المصدر الجغرافي المتأخر نقل أصحاب الكتب والتصانيف الكبرى والخبر شاع، وأصبح كأنه حقيقة، وهناك قول آخر ظهر في القرن السادس الهجري وتبناه ياقوت الحموي وهو أن طاعون عمواس بدأ في كورة –مقاطعة- عمواس التي كانت تتبع إدارياً إلى بيت المقدس المركز الإداري العسكري الرئيسي الأول في فلسطين، أما المركز الإداري العسكري الرئيسي الثاني في فلسطين كان يقع في المعسكر الحربي الإسلامي في الرملة في كورة اللد.