القِطَّةُ الَّتِي تُلاحِقُ النُّقودَ عِندَ المَحَلِّ..سعيد ذياب سليم

 

بَعدَما سَدَّدتُ فَواتيري وَخَرَجتُ مِن ذٰلكَ المَحَلِّ المخصص لذلك، وَضَعتُ يَدي أَستَنِدُ بِها إِلى الجِدارِ الواطِئِ الَّذِي يُفصِلُ المَحَلَّ عَن جارِهِ. فَإِذا بي أَجِدُ قِطَّةً بَيضاءَ، ذاتَ فِراءٍ ناعِمٍ، تَجلِسُ عَلى مَصطَبَةٍ رُخامِيَّةٍ عِندَ نِهايَةِ الدَّرَجِ المُوصِلِ بَينَ الرَّصيفِ وَالمَحَلِّ.

كانَتِ القِطَّةُ تَجلِسُ جَلسَةً هادِئَةً، تُديرُ ظَهرَها إِلى الشّارِعِ الَّذِي لا تَنقَطِعُ فِيهِ الحَرَكَةُ، وَتَنظُرُ صَوبَ المَدخلِ، تُراقِبُ الدّاخِلينَ وَالخارِجينَ بِنَظرَةٍ مُتَفَحِّصَةٍ وَوَقارِ فَيلَسوفٍ. كَأَنَّها تَتَساءَلُ فِي صَمتٍ: ما الَّذِي يَشتَريهِ هٰؤُلاءِ النّاسُ؟ فَلا رائِحَةَ لَحمٍ تَفوحُ، وَلا خُبزٍ وَلا جُبنٍ. يَدخُلُ الوَاحِدُ مِنهُم ساهِمًا، ثُمَّ يَخرُجُ وَشَفَتاهُ تَتَحَرَّكانِ كَمَن يُتَمتِمُ بِلا صَوتٍ… أَهِيَ صَلاةٌ ما؟

خَيالٌ عابِرٌ

مَدَدتُ يَدي أَلمَسُها، أُمسِّدُ فِراءَها، أُداعِبُ ذَقنها وَأَعبَثُ بِشَوارِبِها. لَكِنَّها لَم تَكتَرِثْ، فَقَد بَدا أَنَّها اعتادَت مُداعَبَةَ الغُرَباءِ. كانَت وَديعَةً، وَلَم يَقتُلها المَلَلُ رَغمَ رَتابَةِ النَّظَرِ إِلى مَحَلِّ الصِّرافَةِ.

خَطَرَت لِي فِكرَةٌ طَريفَةٌ: لَعَلَّها قِطَّةٌ ذاتُ اهتِماماتٍ مالِيَّةٍ، تُلاحِقُ الدّولاراتِ بَدلَ الفِئرانِ! رُبَّما تَختَلِسُ النَّظَرَ عَبرَ زُجاجِ المَحَلِّ، تُجري دِراسَةً خاصَّةً، تَحسِبُ كَم تَراكَمَ فِي خَزينَتِهِ، تَجِدُ المَعاييرَ وَالنِّسَبَ المِئَوِيَّةَ. أَم لَعَلَّها لَيسَت قِطَّةً أَصلًا، بَل دُميَةٌ ذَكِيَّةٌ مُسَيَّرَةٌ عَن بُعدٍ، تُراقِبُ وَتُسَجِّلُ وَتَعُدُّ؟

ابتَسَمْتُ لِلفِكرَةِ، لكنني خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّها هِيَ مَنِ ابتَسَمَت بِاِستِخفافٍ. أَتُراني أُثيرُ سُخرِيَتَها؟ وَهَل تَعتَقِدُ يا عَزيزي أَنَّ الدُّمَى الذَّكِيَّةَ سَتَكونُ دومًا عَلى هَيئَةِ حَسناواتٍ؟ لِماذا لا تَكونُ قِطَطًا أَو كِلابًا أَو حَتّى عَناكِبَ؟ وَلِماذا لا تَتَجاوَزُ مُسَيَّراتِ “الكوادكوبتَر” إِلى ما هُوَ أَعجَبُ؟

عَلى أَعتابِ عالَمٍ آخَرَ

اِنتَظِرْ وَسَتَرى… فَنَحنُ عَلى أَعتابِ عالَمٍ آخَرَ، فَضاءٍ يُشبِهُ الأَلعابَ الإِلكترونيَّةَ. سَنَسقُطُ كَما سَقَطَت “أَلِيس” فِي جُحرِ الأَرنَبِ إِلى بِلادِ العَجائِبِ، أَو نُبْتَلَع عَبرَ ثُقبٍ دُودِيٍّ فَنَجِدَ أَنفُسَنا فِي عَوالِمِ “إِكس ماكينا” أَو “بليد رَنَر” أَو “آي. روبوت”.

وَساعَتَها قَد تَبكي حَقًّا، حِينَ تُقاضِيكَ دُميتُكَ الذَّكِيَّةُ الحَسناءُ أَمامَ القاضي وَهيئَةِ الدِّفاعِ، تَروي بِالتَّفصيلِ جَرائِمَكَ الَّتِي لا يَقبَلُها أَحَدٌ مِن أَبناءِ ذٰلِكَ العالَمِ. أَيُّ قانُونٍ سَيُطبَّقُ عَلَيكَ؟ قانُونُ البَشَرِ أَم قانُونُ الدُّمَى؟

وَسَيَبدو الأَمرُ طَبيعيًّا وَأَنتَ تَرى أَطفالَ جارِكَ يَلهُونَ بِطائِرَتِهِمُ المُسَيَّرَةِ فَوقَ حَديقَتِكَ، بَل وَرُبَّما يَقتَرِبونَ مِن نافِذَتِكَ. لَن تَتَبَرَّمَ حَتّى لَوِ اَلتَقَطَتِ الطّائِرَةُ صُورَةً لَكَ وَأَنتَ تَستَرخِي فِي مَغطَسِكَ. لَن تَجرُؤَ عَلى قَذفِها بِحَجَرٍ وَلا حَتّى بِكَلِمَةٍ نابِيَةٍ، وَكَأَنَّ الأَمرَ حَقٌّ مُكتَسَبٌ لَهُم. عِندَها سَتُدرِكُ أَنَّ حَياتَنا آئِلَةٌ لِأَن تَصيرَ تَمامًا كَما يُقالُ: بُيوتٌ مِن زُجاجٍ لا تَستُرُ أَحَدًا.

كاتي

اِنقَطَعَت سِلسِلَةُ الصُّوَرِ فَجأَةً بِفَتحِ نافِذَةٍ فِي الطّابِقِ العُلويِّ، وَصَوتُ طِفلَةٍ يُنادِي:
— «كاتي… كاتي، تَعالي!»

نَهَضَتِ القِطَّةُ، قَوَّسَت ظَهرَها، غَمغَمَت تَمُوءُ بِدَلالٍ، قَفَزَت إِلى مَمَرٍّ جانِبِيٍّ، وَسارَت فِيهِ رَشيقَةً كَأَميرَةٍ مُدَلَّلَةٍ مُعجَبَةٍ بِنَفسِها. وَقَبلَ أَن تَختَفِيَ فِي الظِّلِّ، اِلْتَفَتَتْ نَحوي وَلَمَعَ فِي عَينَيها بَريقٌ فُسفوريٌّ غَريبٌ، بَينَما صَوتُ الطِّفلَةِ يُعاتِبُها:
— «ماذا كُنتِ تَفعَلينَ أَيَّتُهَا الشَّقِيَّةُ!»

إِذَن فَـ«كاتي» لَيسَت لُغزًا سِيبِرانيًّا، بَل قِطَّةٌ مُدَلَّلَةٌ تَعيشُ فِي كَنفِ طِفلَةٍ، فِي شَقَّةٍ عُلويَّةٍ، وَسْطَ هذِه الغابَةِ الإِسمِنتيَّةِ مِنَ المَدينَةِ.

النُّقودُ الضّائِعَةُ

نَزَلْتُ الدَّرَجاتِ الثَّلاثَ إِلى الرَّصيفِ، رَكِبْتُ السَّيّارَةَ بِجِوارِ السّائِقِ، وَاتَّجَهنَا إِلى المَخبَزِ. اِشتَرَيتُ خُبزًا وَكَعكًا، وَأَثناءَ تَفَقُّدي ما تَبَقّى مِن نُقودٍ، أَدرَكتُ أَنَّني أَفقِدُ ثَلاثَةَ دَنانيرَ.

أَعَدْتُ عَمَليّاتِ الجَمعِ وَالطَّرحِ مِرارًا، لَكِنَّ النَّتيجَةَ بَقِيَت كَما هِيَ. أَينَ اختَفَت؟ إِمّا أَن تَكونَ سَقَطَت مِنّي فِي المَحَلِّ، أَو عِندَ تِلكَ القِطَّةِ!

تَذَكَّرتُ بَريقَ عَينَيها، لا بُدَّ أَنَّها كانَت تَسخَرُ مِنّي. رُبَّما لاحَظَت أَنَّ شَيئًا سَقَطَ مِن جَيبي. شَقِيَّةٌ تِلكَ القِطَّةُ، مِن قِطَطِ المَدينَةِ الَّتِي تُلاحِقُ النُّقودَ بَدلَ الفِئرانِ! فِي مَدينَةٍ تَختَفِي فِيها الحَدائِقُ وَالمَساحاتُ الخَضراءُ، وَتَتَراكَمُ فِيها الكُتَلُ الإِسمِنتيَّةُ وَأَعمِدَةُ الطّاقَةِ وَخُطوطُ الاِتِّصالاتِ، لا تَجِدُ ما تُلاحِقُهُ: لا طُيورَ وَلا فَراشًا، إِلّا ما تَحمِلُهُ الرِّيحُ وَتَذرو بِهِ مِن فُتاتٍ وَأَوراقٍ صَغيرَةٍ ـ نَقدِيَّةٍ أَحيانًا ـ وَما يَخرُجُ مِن أَفواهِ الباعَةِ مِن كَلِماتٍ.

الخاتِمَةُ

اِتَّجَهَت بِنا السَّيّارَةُ إِلى البَيتِ، وَلَم تَزَل تَستَفِزُّني ذِكرَى القِطَّةِ، رُبَّما سَتَصِلُ رِسالَةٌ قَصيرَةٌ إِلى عامِلِ المَلحَمَةِ، تَطلُبُ مِنهُ أَن يُعطِيَ “كاتي” لَحمًا بِثَلاثَةِ دَنانيرَ، المَبلَغِ الَّذِي وَصَلَهُ عَبرَ التَّطبيقِ.

سَتَدخُلُ “كاتي” بَعدَها بِقَليلٍ، وَتَنظُرُ إِلى العامِلِ خَلفَ الكاونتَر. هَل سَيَعرِفُ أَنَّها هِيَ “كاتي”؟ وَ كَيفَ يُخاطِبُها؟

وَصَلتُ البَيتَ، حَمَلتُ أَغراضي بَينَ يَدَيَّ، بَينَما كانَ ذِهني مُنشَغِلًا يَحسُبُ قِيَمَ أَربعِ فَواتيرَ. دَخَلتُ البَيتَ، خَلَعتُ حِذائي وَسِرتُ بِخُفَّي إِلى المَطبَخِ، تَركتُ هُناكَ ما أَحمِلُهُ، ثُمَّ مَضَيتُ إِلى غُرفَتِي حَيثُ أَحتَفِظُ بِأَشيائِي وَأَوراقِي المُهِمَّةِ، وَأَفرَغتُ ما فِي جَيبي.

وَهُناكَ، فِي إِحدَى طَيّاتِ مَلابِسي، وَجَدتُها… ثَلاثَةَ دَنانيرَ كامِلَةً! لَم تَكُن قَد سَقَطَت، وَلَم تَكُن لِلقِطَّةِ يَدٌ فِي اختِفائِها. رُبَّما هُوَ ذٰلِكَ الثُّقبُ الدُّودِيُّ الَّذِي يَفغَرُ فاهُهُ كَوَحشٍ خُرافِيٍّ، عِندَ قُدومِ فاتورَةٍ جَديدَةٍ، يُربِكنِي حَتّى سَدادِها.