من الأدب الوبائي في الإسلام عام طاعون عمواس (3) خليل زعتره

قبل بدء الإسلام وقعت العديد من جائحات وباء الطاعون، وأهم الجائحات التي ضربت بلاد الشام والعراق ومصر وآسيا الصغرى وبلاد فارس، هي:
1. الجائحة الرئيسية الأولى بين 541- 544 م، وقد أطلقوا عليها اسم “القاتلة”. هذه الجائحة بدأت من مدينة الفرما (بور سعيد اليوم) الواقعة على دلتا النيل في مصر، وإحدى الفرضيات تقول أن وباء الطاعون وصلها من الحبشة. من الفرما تحرك الوباء في اتجاهين: اتجاه نحو الاسكندرية ومنها انتقل إلى موانىء حوض البحر المتوسط، واتجاه ثان نحو فلسطين، وتحديداً إلى مينائي: غزة وعسقلان، ومنهما انتقل الوباء إلى كل بلاد الشام عبر طرق المواصلات البرية والبحرية، وكل مكان وصل إليه الطاعون استوطن وترسخ، خاصة في البيئات الرطبة القريبة من المياه، وفي البيئات الجغرافية الطبيعية التي تسمح للقوارض والبراغيث الحاملة لبكتيريا الطاعون العيش قيها، والمقصود بتوطن الطاعون أنه موجود باستمرار، لا يتلاشى، لكنه في حالة استقرار، يتفشى سنوياً وتكون الإصابة به في ضمن حدود المكان أو المنطقة، أي ضمن المعتاد، وأحياناً يتحول إلى وباء عام في حالات فرط التوطن وخروجه عن السيطرة لأسباب بشرية أو طبيعية. وهذه الجائحة وصلت إلى سواحل البحر الأحمر وبحر العرب والخليج العربي، فانتشر الوباء في كل المناطق الساحلية لشبه الجزيرة العربية.
2. الجائحة الرئيسية الثانية بين 551- 552 م. ضربت هذه الجائحة الشام وفلسطين وجنوب العراق والقسطنطينية وآسيا الصغرى.
3. الجائحة الرئيسية الثالثة 558- 561 م. ضربت هذه الجائحة آسيا الصغرى والقسطنطينية، ثم انتقل الوباء للشام وكان مدمراً، ثم انتقل إلى العراق. وقبل عقد من هذه الجائحة بدأت شيئاً فشيئاً التجارية القوافلية الكبرى لقريش باتجاه اليمن، وفي سنة 561 م دخلت قريش في التجارة القوافلية الكبرى مع الشام والعراق بعد عقد معاهدة السلام بين الفرس والروم، ثم استقام الخط الطويل بين اليمن والشام وتهيكلت التجارة، أي رحلة الشتاء والصيف حوالي 570 م ودامت حتى فتح مكة سنة 630 م. وهذا يعني أن قادة قوافل قريش ومن التجار ومن معهم أصبحوا عرضة للإصابة بالطاعون، فمع تهيكل تجارتهم بدأت معاناتهم وخبرتهم الشخصية مع وباء الطاعون.
4. الجائحة الرئيسية الرابعة بين 590- 592 م. ضربت هذه الجائحة بلاد الشام وفلسطين، وأهمية هذه الجائحة أنها وقعت بعد تفكيك الروم لإمار الغساسنة العربية في 582- 584 م، فسادت الفوضى والاضطرابات ونهب المدن والقرى جنوب بلاد الشام. إن اضطراب إقليم الشام دفع القبائل العربية الشامية للتوجه إلى جنوب الشام قرب الصحراء، والتخلي عن زراعة الأراضي، فزادت مساحة الرعي، فازداد الاعتماد على الانتاج الحيواني عند القبائل العربية الشامية على الرغم من غلبة الانتاج الزراعي الذي أصبح يعتمد على قنوات الري الكبرى التي أقامها الروم بسبب موجات الجفاف المتكررة التي كانت تضرب بلاد الشام والمنطقة بشكل العام. وقد ساعد تفكك إمارة الغساسنة على انفراد تجار قريش مع الروم، وزاد من تطور تجارتهم معاهدة السلام بين الفرس والروم بين 591- 602 م.
5. الجائحة الرئيسية الخامسة بين 598- 601 م. تجارة مكة مع بلاد الشام كانت تعني في جانب منها مواجهة تجار قريش وباء الطاعون، وجاء في الأثر “خرجت عير من قريش قبل الإسلام بعشر سنين وهم ثمانون رجلاً إلى الشام تجاراً، والبلاد يومئذ وبئة فأقاموا أياماً حتى فرغوا مما يريدون ثم خرجوا، فلما كانوا بعنازة (موضع ماء) بسطوا خميلة لهم، ووضعوا شرابهم فشربوا حتى ثملوا وطرقهم الطاعون فماتوا أجمعون إلا رجلين منهم حملا تركات القوم”. وفي جائحة وباء الطاعون هذه قال الشاعر حسان بن ثابت الذي كان على اتصال مع أمراء الغساسنة:
صابت شعائره بصرى وفي رمح منه دخان حريق كالأعاصير
أفنى بذي بعل حتى باد سكانها وكل قصر من الخمان معمور
فأعجل القوم عن حاجاتهم شغل من وخز جن بأرض الروم مذكور
يقول حسان أن الطاعون نزلت أفعاله (مدينة بصرى)، وهي مدينة مشهورة بالشام كان يأتيها تجار مكة والحجاز، وأصاب (رمح) الواقعة جنوب شرق بصرى من هذا الوباء، فكان كالأعاصير، وأفنى سكان (ذي بعل) وكل قصر معمور في (الخمّان) الواقعة شمال غرب البصرة، وقد أشغل الناس “وخز جن” -اسم الطاعون في الجاهلية- عن حاجاتهم، ونقلهم من حال إلى حال بأرض الروم مذكور، أي شأنه عظيم وله صيت يملىء الآفاق في بلاد الروم، وربما المقصود أن هذه الجائحة تجاوزت جغرافية بلاد الشام إلى ما هو أبعد.
وقد ذكر جواد علي في كتابه “المفصل في تاريخ العرب قبل الأسلام” أن أهل الجاهلية “يرجعون أسباب الأمراض والأوبئة عموماً إلى غضب الآلهة على الناس، وإلى أرواح شريرة تصيب الجسم من الأكل والشرب، وإلى أنواع من الهوام والحشرات، ومن أشهر أنواع هذه الأوبئة الطاعون والجدري”، ونسب أهل الجاهلية الإصابة بمرض الطاعون إلى “وخز جن”، والعرب تزعم أن الطاعون طعن من الشيطان، ويسمون الطاعون “رماح جن” كذلك. إن الاعتقاد أن مرض الطاعون “وخز جن”، لم يقتصر على أهل الجاهلية، فالمسلمون آمنوا أيضاً أن الطاعون من “وخز جن”، ولكن في سياق أنه يتبع إرادة إلهية جلبته إلى الناس، وأنه عذاب للكفار ورحمة للمؤمنين.