هناك، في بطن تلاع وقطاعيات الطهاطير في منطقة أطراف البقيع وسفوح المنشية المطلة على وادي شعيب، حيث تمتد الأرض كدفتر أخضر مرسوم بدقة، كنا نزرع البندورة بين تلوم مخططة كلوحة مهندس محترف. نرعاها بالسقاية، ونحميها برش المبيدات والكبريت، فنرى البذور الصغيرة تكبر أمام أعيننا، تتحول سيقانها إلى خضرة نابضة بالحياة، وتتعالى أوراقها كأجنحة نامية. ومع صبر الأيام وحنان الأرض، تنضج حبات البندورة شيئًا فشيئًا، حتى تغدو حمراء متوهجة، بلون الفريز، تحمل في طياتها حكاية الأرض والعرق والفرح بالموسم.
وأتذكّر حين كنا نذهب إلى الطهاطير، ونقوم بتلقيط البندورة وتحميلها في الصناديق التفّاحية الخشبية «السحاحير» على الخُرج الحديدي «سَرج الشيالات» فوق الحمار، ثم ننقلها من منطقة الطهاطير إلى حسبة “ظافر الداود” في ساحة العين.
وفي حياة الشعوب، هناك طقوس مقدّسة لا تُدرَّس في الجامعات، ولا تُكتب في كتب التاريخ، لكنها محفورة في الذاكرة مثل نقش على حجر.
ومن أهم هذه الطقوس وأشهرها على الإطلاق:
فغم البندورة…
نعم يا سادة، هذه اللحظة التاريخية التي تمتزج فيها الفطرة بالغريزة، ويذوب فيها الجوع مع الفن، وتتحول البندورة من خضار برّية إلى ضحية لذيذة.
ساهم في وصولها إلى يديك مزارع نشيط، وسائق شاحنة ديانا محترف، وكمسيون حسبة مرفوع الجبين، وتاجر صغير رضي بالربح القليل… هؤلاء هم أبطال الملحمة.
فغم البندورة ليس مجرد أكل… لا يا سادة.
هذه ملحمة جوع، من بطولة رغيف مشروح مقحمش، وسيمفونية فغم وفكر وستر ربّك.
“يُفضَّل أن يكون رغيف الخبز ساخنًا ومقحمش، طالعًا من التنور، ويفرد على الفخذ الأيمن وكأنك تفرد خريطة حرب بين أشهر شيفات العالم.”
يُمسك الشخص حبّة البندورة بيده اليمنى، مش أي مسكة…
مسكة مقاتل ناوي يفش غِلّه.
الوصف الدقيق للحبّة؟
نصفها أخضر ونصفها الآخر أحمر من الداخل…
يعني حبّة بندورة عندها “هوية مزدوجة” (دبل فيس).
يبدأ الشخص بالتهام الخبز بشراسة، والفك العلوي ينزل مثل المقصلة، متحدًا مع الفك السفلي.
ومع كل قضمة:
فيه “نتعة رأس” خفيفة للخلف – ورعشة مع هزّة محسوبة – لتسهيل عملية القطع.
قبل العضّة، تُمسح البندورة بكمّ القميص أو الدشداشة، مش من باب النظافة،
بل من باب الطقوس والبركة.
ثم يُبحلق في الحبّة…
نظرة مهندس بفحص أساس عمارة، لحساب قطر فتحة الفم المطلوبة للانقضاض النهائي.
تمّ الفغم!
عضّة + شفطة + ضغط جوي داخلي…
كل هذا يتم في أقل من ثانية، بهدف الحصول على أكبر كمية من “مية البندورة” قبل ما تنقط على الذقن أو تطرطش للسقف.
وإذا نزلت نقطة؟
هزّة كتف وعبارة: “البندورة الأصيلة ما بتجي بالساهل”.
قرن فلفل أخضر أو أحمر (شرط يكون حار جدًا).
كمشة ملح (بدون كرم زيادة، بس كمشة).
كاسة مي احتياط لو زرط الواحد أو شرق، خاصة مع الفلفل.
وفي الختام، يجب أن نعرف أن فغم البندورة فلسفة حياة.
فغم البندورة مش وجبة.
فغم البندورة هوية، انتماء، وموروث ثقافي فني اجتماعي لا يجوز التفريط فيه.
وإذا ما فغمتها بهالطريقة؟
فاسمحلي أن أقول لك… أنت مش جعان، أنت بتمثل وبتسرح بينا.
صدقوني، أتحدث بالحقيقة، وهذا ما حصل في ذلك الزمن بأحضان الطبيعة بسفوح وتلال الطهاطير.