رؤية: وداد أبوشنب
“العاشق الذي ابتلعته الرواية” رواية للروائي أسيد الحوتري عمادها الحكي والسرد واستحضار التراث الشعبي (قصصًا وحكاياتٍ وترويداتٍ وأغانيَ) والأسطورة والحاضر والعودة إلى الماضي، في قالب ما بين الواقعي والغرائبي. وبتقنيات عالية للرواية والسرد، يمضي الروائي عبر مسار الحضارة الكنعانية، خاصّة الفلسطينية، ليصل إلى إثبات سرديّته الذاتية/الكبرى عن طريق الهوية السردية والتي سأتطرق إليها -لاحقا- عبر مفهوم الباحث الفرنسي بول ريكور الذي أضاف على تمثيل الوجود العملية السردية.
في إطار سردي عام يبدأ الروائي أسيد الحوتري روايته بمقدِّمة لا تنفصل عن العمل الروائي لأنّها موجِّه حقيقيٌّ للقارئ الذي أصبح يعرف بعد قراءتها بأنّه موجَّهٌ إلى عالم الحكايات والقصص، لا سيما الحكايات المرتبطة بالتراث الشعبي، أسطورةً كانت (بعل) أو حكايةً شعبية (ظريف وجبينة)، أو قصيدةً مغناة (الدلعونة) أو ترويدة (الترويدة الشمالية)، ويوجِّه حديثه للقارئ معرِّفًا إياه بأنّ العمل الذي بين يديه تتمّة لحكاية ظريف الطول الفلسطينيةـ وكانت مسبوقة بتمهيد موجِّهٍ، ثم وصل الحوتري هو ومتلقيه إلى نهاية العمل (النصّ) الذي كان الهدف منه توثيق هوية فلسطينية حقيقية عبر الهوية السردية المتتالية، وعبر الصراعات المتعدِّدة في الرواية والتي تنتج عدّة حبكات، نصٌّ نهايته عند بدايته!!
تقنية السرد والساردين تراوحت ما بين سارد يسرد بضمير الغائب وآخر يسرد بصيغة المتكلم، وأحيانا يأخذ السارد دورين حسب ما يقتضيه السرد أو العرض: (رؤيتان لسارد واحد: رؤية مصاحبة ورؤيا من الخلف -راوٍ عليم-) في القصة الإطار السارد هو غريب حين كان يروي الحكايات المتضمَّنَة في الرواية، ويمكن تجاوز السارد “أديب” الشخصية المثقفة والمتحوِّلة بين رموز المثقفين الفلسطينيين، أديب وليد لحظة إغماء -حلم- جاء ليوقظ غريب من -غفوته/غفلته/عمالته- فكتب في الحلم المخطوط القرمزي وسلمه لغريب، الذي أعاد كتابته بكامل وعيه من الذاكرة -ذاكرته-.
وأخذ دور الحكي أو السرد، ظريف الطول في بعض المغامرات الشعبية نحو ما جاء في (قرية صفّون ورؤيا عليان).
السرد تمثيل للوجود الإنساني في هذه الحياة، فالشخص/الشخصية يسرد ليعيش، ينقل خبراته وسرديته وحياته الجماعية أو الفردية ليبقى حيًّا، وذلك ما بين الهويتين المطابقة (التراكمية) والذاتية (الفردية)، ما بين ذاكرة ووعي متراكمَيْن جمعيين وما بين ذاكرة فردية؛ لذلك كتب/سرد أسيد الحوتري من عمق ذاكرتَيْه، وكتب/سرد أديب أيضا، وأعاد غريب الكتابة/السّرد بكل وعي بعدما ضاع المخطوط القرمزي في اللاوعي. كلّ منهم كان يسرد للحفاظ على هويته من الضياع ففي الحديث/السّرد حياة وفي الصمت موت، تماما كما في ألف ليلة وليلة.
إنّ الهوية تُستعاد في كلِّ مرة بعد الموت عن طريق الانبعاث، “غريب” لم يمت لكنه عاد إلى الحياة عن طريق تجربة السرد، عاد ليكون بطلا نابذًا كلَّ ذرة خيانة مارسها من قبل، فقد ذاكرته -ذاكرة الخائن- ليتحصل على ذاكرة تخلِّد سرديته، و”بعل” مات لكنّه عاد بفعل الحبّ واستجماع أشلائه، وظريف ينبعث كلّما اختفى، يُبعث بطلًا بعد كلّ غياب (قيامة ظريف/عودة ظريف).
تنقّل ظريف عبر أزمنة متنوِّعة، ابتداء من وجوده في أسطورة بعل الذي سكنته روحه كما سكنت روحُ عنات روحَ عنات الثانية، إلى زمنه المجهول إلى زمن آخر حيث كان في سجن عكّا وقت إعدام الشهداء الأبطال: عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم.
كانت الفكرة هي إعادة كتابة شخصية تكون فكرة بالمطلق “لأنّ الفكرة لا تموت”، فتمَّت صناعة شخصيات لا تموت، وإن ماتت تبعث من جديد، والانبعاث/البعث هو أفق مستمر للكتابة/للسّرد والهوية والذاكرة، وهو ما يربط بين الفرد والجماعة عبر دورة موت/انبعاث متكرِّرة، على حدّ قول سعيد أبي النحس المتشائل: “لم أمُتْ، لكنني اختفيت”، وقد استعار الحوتري هذه الجملة كجملة قبلية بدأ بها الفصل الأوّل من الرواية، ممهِّدا لقارئه بأنَّ أبطاله الجيِّدين سيبعثون كلّما اختفوا. وفي العتبة الأولى للرواية: العنوان خير إشارة إلى الانبعاث والحياة، فالعاشق ابتلعته الرواية ولم تلتهمه ولم تأكله ولم تفترسه، الابتلاع يعني بقاء المبتلَع كاملا كما هو. هذا وقد أشار الحوتري إلى الانبعاث والموت في الرواية على لسان براق: ” فتُعقّبُ “براق” وتقول: أجل، أجل، يأتي الماضي أحيانا قاطعا كالسيف، مفتوحة مع (موت) حربكم يا عليان، طوراً ترجح كفتكم، وطوراً ترجح كفّة (موت)، تتناطحون كعجول البرية، جولة لكم وجولة لـ(موت)…”ص(48).
والكتابة/السرد عنصر ثابت عند الحوتري يحمِّله أبعادًا وجودية متنوِّعة، ففي روايته الأولى “كويت بغداد عمّان” جعل من الكتابة وسيلة للاستشفاء، وبالمقابل جعل من القراءة ضربًا من ضروب الاستشفاء حسبما تحتاجه الحالة، فالكتابة/السرد حياة ونجاة، بالكتابة/السرد يحافظ الفرد على سرديته الذاتية بالحفاظ على سرديته الكبرى، فيحافظ الحوتري/غريب/أديب/ظريف على ميراثه الحضاري من السّرقة ومن الضياع، ويحافظ على أرضه من المحتلّ الذي يسرق المكان والزمان، الماضي والحاضر والمستقبل.
وما بين البداية مع “غريب” والنهاية مع “غريب” أيضا يعيد “أسيد الحوتري” بناء سرديته عبر جمع قطع البازل الحكائية التي عاشها في مخيّلته على أرضية زمكانية واسعة جدا تجعل العمل خالدًا صالحا لكل زمان ومكان لأن زمن التلّقي مهما تقدّم لن يكون بعيد المفهوم عن زمن الكتابة وعن زمن الحكايات المكتوبة، ولذلك فقد استعان الروائي بالرموز الفلسطينية منذ الإله الكنعاني الأوّل وصولا إلى الملثّم على سبيل المثال، وإلى آخر طفل فلسطيني ينشد الحفاظ على هويته. التي يسجلِّها كيلا يضيع حقُّه بين أضراس طغيان العدوّ الإسرائيلي.
يقول غابرييل غارسيا ماركيز: “التاريخ يكتبه الروائيون”، لأنّ المؤرِّخين يدوّنون الإحصاءات وأسماء المدن المحتلّة وعدد المفقودين والقتلى…، أمّا هوية المواطن وحياته وتراثه وبطولاته وتضحياته ووجوده وإنسانيته وجميع أحواله لا ينقلها إلا الرّوائي. ولا يحافظ على السردية الذاتية أو الكبرى إلّا الروائي، فالرواية عالم متصوَّر نكتبه على هامش واقع نعيشه، وكما قال بول ريكور: “قصّة لم تكتب هي قصة لم تُعَش”، لذلك علينا أن نكتب/نسرد تجاربنا ونعيد سرد تجارب من كانوا قبلنا بغية الاستمرارية والحياة استنادًا على سردية جذورها ضاربة في عمق التاريخ وفروعها طالت عنان السماء.