كتاب جديد يغوص عميقاً في التجربة الشعرية لشاعر عراقي

الأديبة الأردنية إنصاف قلعجي: الدخول إلى عالم حميد سعيد ليس سهلاً
* (تطواف في حدائق الموريسكي).. قراءات مميزة عن تجربة الشاعر الذي ظن أنه سيموت إذا فارق بغداد
* حميد سعيد وقداسة الزاهد المتصوف الذي اختار عزلته واستيقظت القصيدة على أصابعه

سلام الشماع – عمان
تعتقد الأديبة الأردنية إنصاف قلعجي أن الكتابة عن الشاعر العراقي حميد سعيد تعني أن تضع أصابعك في جمر حرائقه واشتعالاته، وتدخل في أزقة لا تعرف لها خروجاً، وفضاءات تبهرك بنورها وتوهجها. ففي كل ركن اعتزل فيه، وما كانت عزلة بقدر ما كانت ضجيج الروح، ترى بحدسك أشخاصاً ومقاهي بغداد ووجوها من الحلّة وقادة عسكريين ومدنا صاخبة وأنهارا وصيادين وطفلاً يضج بالأسئلة في طرقات الحلّة، وجوهاً تحسها من دون أن تراها، فحركة الحياة هناك مستمرة في ذاكرة هذا الموريسكي الذي لا يتعب…
أبدت قلعجي اعتقادها هذا في مقدمة كتاب جديد أصدرته في العاصمة الأردنية عمان، عن دار هبة ناشرون وموزعون بعنوان (تطواف في حدائق الموريسكي – عن الشاعر حميد سعيد)، قدمت فيه قراءات مميزة عن تجربة الشاعر الذي يقيم في عمان، منذ كارثة غزو العراق.
يلحّ على المؤلفة سؤال دائم: ما العلاقة بين الشاعر أي شاعر وقصيدته ؟ هل القصيدة هي الوجه الآخر للشاعر؟ وربما وجدت الجواب في كتاب الشاعر الأقرب إلى السيرة الذاتية “البحث عن أسرار القصيدة” الذي صدر عام 1988، وتتساءل ما إذا كان هذا الكتاب هو السيرة الذاتية للشاعر أم هو سيرة القصيدة وهل هناك اختلاف بينهما؟
يقول الشاعر: “.. وقد حاولت الإيحاء بعلاقة ما بين السيرة الذاتية للشاعر والسيرة الذاتية للقصيدة في كتابي (الكشف عن أسرار القصيدة) وعلاقتها بالمكان في كتابي الآخر (المكان في تضاريس الذاكرة)”.
انتقت إنصاف، في كتابها، درراً من شعر حميد سعيد ومكنوناته لبناء تصوراتها الدقيقة والعميقة عنه، ووقفت عند محطات وتطورات في هذه التجربة الثرة فجاء الكتاب جديدا في منهجه ومضمونه (على الرغم من الدراسات الكثيرة التي تناولت شعر حميد سعيد ) وقدم الكتاب حميد الشاعر الثمانيني الان في كل أطواره واشتعالاته وامتلأ الكتاب بالصور المنتقاة والمعبرة عن الكثير مما خطه حميد واراد التعبير عنه، كما يقول المثقف الأردني إسماعيل أبو بندورة.
حيث نجد في الكتاب سلاسة ونعومة يستشعرها المرء من قلم كاتبة عودتنا على الكتابة الملفتة والنوعية والمتضمنة للموقف العربي الأصيل الذي لا ينثني أمام الفاجع أو تزعزعه الإحن .
ترى المؤلفة أن شاعراً كبيراً مبدعاً مثل حميد سعيد لا يحتاج إلى مقدمة للتعريف به، فهناك عشرات الكتب والدراسات حول تجربته الشعرية الثرية، وكذلك مراسلاته مع الشاعر سامي مهدي، ورسائل الشاعر والرسام والناقد حمدي مخلف الحديثي إلى حميد سعيد، وحواره مع الشاعر والكاتب هادي دانيال وحوارات متعددة مع الشاعر والكاتب إدريس علوش وحواراته مع الشاعر هشام عودة وحواراته مع الناقد نضال القاسم والكاتب والناقد سليم النجار وغيرهم…
إن التجربة الحياتية والإبداعية لحميد سعيد ثرية بما تشمله من قراءات متنوعة وسفر عاشه بكل غناه من أناس وثقافة وأماكن متنوعة وتاريخ حضاري، منذ نشأته في العراق، ثم التزامه المطلق بقضية فلسطين، ثم إسبانيا ثم المغرب… فهو يقول:
“منذ البدايات، وما زلتُ أشرّع، أبواب الحياة ونوافذها، للقصيدة، من الماضي والحاضر، من العربي والأجنبي، من الشفهي والمكتوب، من الواقعي والأسطوري، مما أسمع وما أرى، من الشعري والنثري. من كل هذه المرجعيات أفدت، وبها كلها، حاولت إغناء تجربتي الشعرية”، ويضيف: “إن مرجعيات الإبداع هي مرجعيات الحياة، ليس في الشعر فحسب، بل في جميع عناوين الإبداع، وإن من يحاصر أفق إبداعه بمرجعية واحدة، أو بمرجعيات محددة، سيكون بمنأى عن جوهر الإبداع”.
إن الدخول إلى عالم حميد سعيد، كما وجدت المؤلفة، ليس سهلا، فكل باب تلجه، تهفّ من حولك روائح الياسمين والقرنفل والنارنج والبربين، سواء كانت في بساتين الحلّة أو بغداد أو قرطبة أو غرناطة، “وتحنو عليك شجرة الصفصاف”، فتقف، تالياً، مأخوذا بضوع حروفه الشعرية والنثرية. ولكن خلف الأبواب يقف العراق، وتقف بغداد بنارها ولهيبها، وما خلّفه الاحتلال من دمار وحزن وكثير يدخل في “غابة الرماد “.
من أجمل ما ضمه الكتاب، وهو كثير رصد قلعجي للشاعر وهو في “زاويته ” في مقهى (فوانيس) العمانية، وهي، كما وصفتها، محراب العاشق، حيث يعيش “حرائق الانتظار وعذابات الكتابة”، يبدو لك مثل غمامة بعيدة، يجلس مع أوراقه وصحفه وفنجان قهوته. تقترب منه، لكنك تحذر أن تتخطى ما هو مسموح به في عالمه. هي قداسة الزاهد المتصوف الذي يختار عزلته لتدخل في “معنى رهبانيات الصمت”، لتستيقظ القصيدة على أصابعه. وحين تنظر إليه، ترى وجهه يشرق وتلتمع عيناه، وترى بغداد تنسكب من عينيه دفقات حزن وحب وتاريخ كان، ويغيب كأنه ارتحل إلى هناك: “لقد فارقت بغداد فما فارقتني، لذا فأنا غير بعيد عنها”… ويضيف: “كنت أظن بأني لو فارقتها سأموت”…
قسمت المؤلفة كتابها إلى ستة أقسام عدا المقدمة، وهذه الأقسام: معضلة الكتابة، “لم يبقَ أحد في البايثين”، الموريسكي الذي لا يتعب، محاورات حميد سعيد في “أولئك أصحابي”، “ما تأخّر من القول”… ليس نهاية القول، وأخيراً إطلالة عبر شبابيك حميد سعيد الجديدة.
كتاب الأديبة إنصاف يُقرأ من الغلاف إلى الغلاف لما احتواه من إثارات وتناوله خفايا وأسراراً من حياة الكاتب واللغة العذبة النقية التي كتب بها فضلاً عن غوصه عميقاً في مراد الشاعر من القصائد المهمة التي انتقتها قلعجي من شعر حميد سعيد وقدمت لها قراءات في كتابها.