التراث الشعبي في رواية “العاشق الذي ابتلعته الرواية” لأسيد الحوتري

 

بقلم: هاني علي الهندي

يشكّل التراث الشعبي ركيزة أساسية في بناء الهوية الثقافية للأدب، ويمنح النصوص بعدًا شعبيًا يعكس الذاكرة الجمعية والوجدان الشعبي، ولذلك أهتم الأدباء بتخصيب نصوصهم بهدف الرغبة في بعثِ أمجاد الماضي وكأداة للتعبير عن الواقع المُعاش، فقلّما نجد رواية عربيّة لاَ تعود إلى الموروثِ الشّعبي العربيّ والمحلّي.
وهكذا جاءت رواية “العاشق الذي ابتلعته الرواية” مليئة بالمعلومات والمعارف التي جمعها الحوتري من مصادر مختلفة استطاع بتجربته الروائية أن يعيد صياغتها وربطها بخيط روائي يتيح للمتلقي أن يطل على نافذة تاريخية وأخرى تراثية تُشعره بالانتماء والتواصل مع المحتوى.
اتخذ التراث الشعبيُّ في الرواية أشكالا مختلفة منها: الأسطورة، والحكاية الشعبية، والمعتقدات الشعبية، والعادات والتقاليد، والأغنية الشعبية والصناعات الشعبية والملابس، والألفاظ والعبارات الشعبية، والبيت الريفي.
الحكاية الشعبية:
وظف الحوتري حكاية ظريف الطول التي تعتبر من أكثر الحكايات الشعبية شهرة وانتشارا في فلسطين وبلاد الشام، التي دارت على ألسنة الناس زمن الاحتلال البريطاني حتى يومنا هذا، وفيها كتب الشعراء الأغاني التي عرفت بقالب “ظريف الطول” التي تغنى في الأعراس والحفلات، استثمر الحوتري حكاية هذا الشاب العاشق لأرضه ليخلق منها رواية مكتملة الأركان ليخدم فكرة استمرارية المقاومة.
كما وظف حكاية “جبينة” الخرافية لتصوير الواقع والتعبير عن الراهن المعاش للكشف عن حالة الظلم والقهر، مشيرا إلى الخادمة السوداء التي تمثل الشر ويرمز بها إلى الكيان الصهيوني التي استقوت على “جبينة” واحتلت مكانها بعد أن فقدت خرزاتها الثلاث. والمطلع على النص الأصلي لحكاية “جبينة” يكتشف أن الحوتري كتب نصا جديدا برؤية جديدة متكئا على النص الأصلي. هذه الحكاية جاءت منسجمة مع الفكرة العامة والتحمت بسهولة في الخط الدرامي. ص142
العادات والتقاليد الشعبية:
العادات والتقاليد هي مجموعة من السلوكيات والممارسات التي تتوارثها الأجيال داخل المجتمع الواحد، تربط الماضي بالحاضر، وهي من أكثر عناصر التراث الشعبي لدى كتاب الرواية بشكل عام. ومن العادات التي وردت في رواية العاشق الذي ابتلعته الرواية: تحنيك الأطفال، وهي عادة دارجة في المجتمع الفلسطيني، وتتمثل بمضغ تمرة، أو شيء حلو بفم شخص سليم من الأمراض، ووضعه في فم المولود، ودلك حنكه به بواسطة إصبع نظيف.
ومن العادات التي يستقبل بها المولود الجديد الآذان وإقامة الصلاة في أذنيه، وحلق شعره، “فقد استدعى اسماعيل والد ظريف الطول الشيخ ليحنكه، ويحلق شعره، ويؤذن في أذنه اليمنى، ويقيم الصلاة في اليسرى.” ص44
ومن العادات التي كانت في القرى والبوادي عملية دق الوشم، لذلك نرى ظريف الطول عاشق البندقية “قد دقَّ حزامها وشما داكنا على كتفه” ص49 وهذا يحمل دلالة استمرار ظريف الطول في مقاومة المحتل.

المعتقدات الشعبية:
شغلت المعتقدات الشعبية حياة أهل القرى والبوادي، وظلت هاجسا يشغل بالهم، فتشعرهم بالخوف والتشاؤم وبالتفاؤل والفرح، لذلك نجد بعض الروائيين ضمنوها رواياتهم لرسم صورة صادقة للتراث الشعبي في مجتمع وبيئة الرواية وللكشف عن الحالة النفسية والاجتماعية في تلك المجتمعات.
من المعتقدات الشعبية التي وظفتها الرواية الرقية من العين والحسد، وهي ظاهرة منتشرة في أغلب المجتمعات، فاعتقدوا أن العين الحاسدة قادرة على جلب المرض … حتى الموت. والرقية عند الفلاحين تشمل كل ما يملكه الفلاح فكان ظريف الطول “يغسل فرسه براق كل مساء بماء العين ويرقيها من العين والحسد” ص48
ومن معتقداتهم إن الخرزة الزرقاء تملك القدرة الخارقة على رد العين ودفع الشر، ولذلك قالت جبينة “أعطتني أمي ثلاث خرزات زرقاء لتحميني من الحسد والشر.” ص146

الأغنية الشعبية:
الأغنية الشعبية شكل من أشكال الأدب الشعبي يتداولها الناس ويتوارثونها في مناسباتهم المختلفة، تعبر عن صدق المشاعر والأحاسيس والوجدان الشعبي، وظفها الشعراء والروائيون في نصوصهم لتعبر عن الحالات النفسية التي تمر بها شخصيات الرواية، فجاءت أغنية ظريف الطول محملة بالخوف والقلق من الاغتراب على لسان عنات عندما علمت بخبر رحيل ظريف الطول فقالت:
“يا زريف الطول وقف تاقُلك،
رايح عالغربة وبلادك أحسن لك
خايف يا زريف تروح وتتملّك
وتعاشر الغير وتنساني أنا” ص62
حملت دلالات وإيحاءات ترمز للوطن فلسطين وحالة الاغتراب التي يعانيها الفلسطيني في المنافي والمهجر.
وإذا جاءت أغنية ظريف الطول على لسان عنات فإن أغنية الدلعونة جاءت ردا عليها على لسان ظريف الطول التي قال فيها:
على دلعونا وعلى دلعونا راحوا الحبايب ما ودعونا
من باب البروة لكفر كَنّا
ما زالك عزب لظل استنى
سخنا المي وعجنا الحنا كله عشانك يا أم العيونا” (64).
ليؤكد لها العودة مهما طالت فترة الغياب.
ومن الأغاني الفلسطينية بامتياز أغاني الملالاة التي ظهرت أثناء ثورة 1936، أثناء فترة الانتداب البريطاني، لإضافة حرف اللام لكلماتها، فتبدو كأنها رسالة مشفرة، تحملها النساء الفلسطينيّات للتواصل مع الأسرى في سجون الاحتلال، أو لرجال المقاومة لتمرير الرسائل لهم، دون أن يفهم معناها جنود الاحتلال بسبب وجود اللام. منها أغنية يا طالعين الجبل:
يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار
بين لللل يامان يامان عين للل هنـــا يـــــــا روح
إلا إن الروائي وظف بيت العتابا القريبة من سجن عكا:
شمالي يا هوا الديرة شمالي
على اللي بوابهم تفتح شمالي
وانا ل رافق الريح الشمالي ندى واسقط على قلب الحباب.
وأضاف على بعض كلماته حرف اللام ليجعله من ضمن أغاني الملالاة المشفرة، ف”حمل الهوى الشمالي صوت عنات العذب وطار به إلى زنزانة عليان…. الذي كانت زنزانته في الجزء الشمالي من السجن” ص212

الألفاظ والعبارات الشعبية:
لعبت اللهجات العامية دورًا ملحوظًا في الرواية العربية المعاصرة، حيث استخدمها الروائيون في نصوصهم لتساعدهم في عملية تصوير الشخصيات والحوارات وأحداث لتعبر عن أصوات الناس والحياة اليومية في بيئة معينة، ما يجعل النصوص أكثر واقعية ومصداقية.
فقد وردت اللهجة العامية في رواية “العاشق الذي ابتلعته الرواية” في أكثر من حوار أو سرد للتعبير عن الهوية الثقافية ما يعزز مصداقية الرواية وسياقها المحلي ومنح الشخصيات صوتا واقعيا قريبا من المتلقي.
“كنك انجنيتي؟!” ص55
“الله يلعنك. بدك تصيري مرت نجار ؟!” ص56
” يا دار ما دخلك شر” ص135
“حطي إديكيك ورجليك في مي باردة” ص150
“اسم الله عليك يا حبيبتي شو اللي جرا لك يا روحي” ص169
“والله يا حجة الجاجة دلتني!” ص170
استطاع الحوتري دمج المفردات اليومية والعبارات الشعبية في نصوصه الأدبية ليصوغ بها صورًا تعبّر عن الحياة الثقافية داخل المجتمع، مع المحافظة على جوهر الرواية باللغة العربية الفصحى التي استخدمها في السرد بينما وظف اللهجة العامية في بعض الحوارات حسب ثقافة المتحاورين.
ومن الثقافة المادية أشارت الرواية إلى:
البيت الريفي: وصف البيت الريفي والبيارة التي احتضت أشجارا منوعة من الليمون والتين والزيتون والبندورة والخيار و…. “يا لهذا البيت الريفي الجميل، ما أجمل الحجر الفلسطيني الذي بني منه، وما أروع فكرة العقد الذي قام عليه” ص134
الأزياء الشعبية: ورد وصف الأزياء الشعبية على لسان ظريف الطول حين قال: “خلعت القمباز، وارتديت ثوبا أبيض وسروالا، وعصبت الحطة على رأسي دون عقال” ص130
المهن والصناعات الشعبية:
من الصناعات الشعبية القديمة صناعة الفحم، وقد أشارت لها الرواية من خلال حكاية جبينة: “أمرتني الخادمة أن ألطخ وجهي بالفحم لأبدو مثلها، شحرت وجهي رغما عني” ص148
ومن المهن الشعبية التراثية التي كانت في تلك الفترة مهنة الحوذي والحنطور. ص216
جاء اشتغال الروائي بتسجيل التراث الشعبي والذاكرة الشعبية في الرواية ليحدد ملامح الهوية الفلسطينية ولحرصه على حفظ هذا التراث من الضياع أو التغيير وحمايته من سرقات الصهيونية التي تحاول سرقة الأرض والتراث.
ومن نافلة القول إن رواية العاشق الذي ابتلعته الرواية رواية تستحق القراءة والتأمل والدراسة والتحليل لما تحويه من دلالات وإيحاءات ورموز.